قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

محمد بن أبي بكر .. ربيب الولاية وشهيد العقيدة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة إعداد / علي عبد الرزاق
تميز التاريخ الإسلامي بنفر من القادة، تولّى بعضهم مصراً من الأمصار، أو قاد جيشاً، أو عُهد إليه بسفارة أو تمثيل لحاكم أعلى. هؤلاء الرجال بالرغم من أهمية المسؤولية الموكلة إليهم، كانوا فتيةً في ريعان الصبا وشرخ الشباب؛ لم يتجاوز سنهم العقد الثالث من العمر، بل دون ذلك أحياناً، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على دور الشباب في حركة الدين والإصلاح الاجتماعي، فهم الشعلة المتوقدة والطاقة المتوثبة.
لقد انتدب رسول الله صلّى الله عليه وآله مصعب بن عمير، الشاب المترف المدلل الذي صدف عن زخرف الدنيا وزينتها، ليمثله في المدينة للقاء الأنصار عشية هجرته المباركة، كما عيّن أسامة بن زيد قائداً في أواخر أيام حياته صلى الله عليه وآله، وتحت إمرته كبار الصحابة، ومَنْ هم أقدم منه هجرة وإسلاماً، وهو ابن الثامنة عشرة.
أما الذي نسلط الضوء عليه في هذه الصفحة في ذكرى مولده الطيب، فهو محمد بن أبي بكر (رضوان الله عليه)، الذي اقترنت مسيرة حياته وخاتمته بأمير المؤمنين عليه السلام، وياله من مطاف في هذه الحياة القصيرة الأمد!
المولد مع (الغدير)
وُلِد محمد في حجة الوداع بذي الحليفة، وهي موضع بين مكة والمدينة، في شهر ذي القعدة سنة 10هـ، وهي نفس الحجة التي شهدت تنصيب الامام علي بن أبي طالب عليه السلام للولاية من قبل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، بنص الآية القرآنية "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته". فهل هذا التزامن جاء صدفة؟
نشأ في المدينة المنورة. و والدته أسماء بنت عُمَيس الخثعمية، وكانت أسماء زوجةَ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي تعد من النساء الأوائل في الإسلام، ومن شيعة علي عليه السّلام، وكانت تكثر من السؤال لرسول الله صلّى الله عليه وآله لتتعلم معالم دينها منه. هاجرت مع زوجها جعفر إلى الحبشة في أوائل مَنْ هاجر، فولدت له هناك عبدالله الجواد. وبعد استشهاد جعفر في يوم مؤتة، تزوجها أبو بكر، فولدت له محمداً، ثم توفي أبو بكر، فتزوجها الإمام علي أمير المؤمنين عليه السّلام، فأصبح محمد ربيبه وخريجه، وجارياً عنده مجرى أولاده. رضع الولاء والتشيع من زمن الصبا، واستقاه من أمه ومربيه، فلم يكن يعرف أباً له غير علي عليه السّلام، ولا يعتقد لأحد فضيلة غيره، حتّى قال علي عليه السّلام: (محمد ابني من صلب أبي بكر)، وكان يكنّى أبا القاسم، وكان من عُبّاد المسلمين ونسّاكهم، وكان يثنى عليه لفضله وعبادته واجتهاده.
صلة الرحم بأهل البيت (ع)
لم يكن محمد بن أبي بكر (رضوان الله عليه) ربيباً لعلي عليه السّلام فحسب، وإن كان حَسْبه شرفاً وفخراً أن يحظى بتلك الكفالة التي حظي بمثلها إمامه عند رسول الله صلّى الله عليه وآله، كما حظي كافلو النبيّ صلّى الله عليه وآله والقائمون على تنشئته وإرضاعه مثل عبدالمطلب وأبي طالب وحليمة السعدية، لأن الفيوضات الروحية، والكمالات الإنسانية تسري من الأكثر كمالاً إلى مَنْ له القابلية لتلقي تلك الفيوضات الروحانية والمزايا السَّنية.
لقد كان محمد أخاً لعبدالله بن جعفر لأمه، وعاش ردحاً من الزمن في كنف الحسنين عليهم السّلام يقتبس من نوريهما ويتأثر بهما، ثم جاء فتح فارس في معركة القادسيّة، فأُسِر ليزدجرد أربع بنات، كانت إحداهن من نصيب الإمام الحسين عليه السّلام، فأنجبت له الإمام زين العابدين عليه السّلام، وهي شاهزنان، والثانية شهربانويه، تزوجها محمد بن أبي بكر فولدت له القاسم، وتوفيت شاهزنان أم الإمام زين العابدين، فقامت بتربيته خالته شهربانويه زوجة محمد، فأنزلها الإمام زين العابدين عليه السّلام بمنزلة أمه. أمّا البنتان الأخريان فتزوج إحداهما الإمام الحسن عليه السّلام والثانية عبدالله بن عمر. فعلى هذا يكون القاسم بن محمد والإمام زين العابدين عليه السّلام أبناء خالة. وكان للقاسم ابنة اسمها (أم فروة) تزوجها إمامنا الباقر عليه السّلام، فولدت له الإمام الصادق عليه السّلام، فيكون محمد بن أبي بكر جد الإمام الصادق عليه السّلام لأمه، مع العلم أن أمّها هي ابنة عبدالرحمان بن أبي بكر شقيق محمد. ومن ألطاف الله على محمّد بن أبي بكر أن جعل ذريته موصولة الرحم بذرية الرسول صلّى الله عليه وآله.
يقول الأصمعي: (كان أكثر أهل المدينة لا يرغبون في الإماء، حتّى نشأ فيهم علي ابن الحسين عليه السّلام والقاسم بن محمد وسالم بن عبدالله بن عمر، ففاقوا أهل المدينة علماً وفقهاً وورعاً، فرغب الناس في الإماء).
جهاد الحق ضد الباطل
عندما ينشأ محمد بن أبي بكر (رضوان الله عليه) في حجر أمير المؤمنين وينهل من معينه الثر، فانه لا شك يواكبه في مسيرته الجهادية لإعلاء كلمة الاسلام والحفاظ على كيان الدين من المؤامرات والدسائس والانحرفات، علماً ان لمحمد تجارب عسكرية مع الجيش الاسلامي، فقد اشترك في معركة (الصواري) البحرية سنة 31هـ، في عهد عثمان بن عفان، وهي معركة بحرية جرت بين المسلمين والروم، وأُرْسِل في سفارة إلى أبي موسى الأشعري بالكوفة في عهد أمير المؤمنين عليه السّلام، وكان في معسكر الامام علي عليه السلام في (صفين) و(الجمل)، وهو الذي حمل الهودج من بين القتلى، فأمر الإمام علي عليه السّلام أن يضرب عليه قبة، ثم قال لمحمد: (أنظر هل وصل إلى اختك عائشة شيء من جروح). وعندما أقبل الليل أدخلها البصرة وأنزلها دار عبدالله بن خلف الخزاعي، ضيفة عند صفيةً بنت الحرث بن أبي طلحة، ثم أعادها الإمام علي السّلام إلى المدينة المنورة برفقة أخيها محمد مع أربعين امرأة متنكرات بزيّ ثياب الرجال حرساً لها.
ولاية مصر.. و رواية الغدر
بعد أن عُزل قيس بن سعد عن ولاية مصر، عيّن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام محمد بن أبي بكر والياً عليها. وكانت مصر آنذاك معروفة باهميتها الاستراتيجية، من حيث سعة أرضها وكثرة سكانها وخصوبة ارضها، لذا كانت بحاجة إلى قائدٍ محنّك و والٍ ذي سياسة قوية، كل ذلك توفر في محمد بن أبي بكر حيث كان واعياً لمهمته التي كان بها جديراً.
ثمّ إن الإمام عهد إليه وأوصاه ناصحاً له بقوله: (بسم الله الرحمان الرحيم، هذا ما عهد به عبدالله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر، وأمره بالتقوى والطاعة في السر والعلانية، وخوف الله عزّوجلّ في الغيب والمشهد، واللِّين على المسلمين، والغلظة على الفاجر، وبالعدل على أهل الذمة، وبإنصاف المظلوم، والشدة على الظالم، والعفو عن الناس، والإحسان ما استطاع، والله يجزي المحسنين ويعذب المجرمين).
وعندما نزل محمد مصر تلا على الناس عهد أمير المؤمنين إليه، ثمّ عقب على كتاب الولاية فقال: (الحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختّلِف فيه من الحق، وبصرّنا وإياكم كثيراً مما كان عُمِيَ علمه. ألا إن أمير المؤمنين ولاني أمركم، وعهد إليّ ما سمعتم، وما توفيقي إلاّ بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعةً لله، فأحمد الله على ما كان من ذلك، فإنه هو الهادي له، وإن رأيتم عاملاً لي عمل بغير الحق، فارفعوه إليّ وعاتبوني فيه، فإني بذلك أسعد وأنتم بذلك جديرون، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته).
ولبث شهراً كاملاً مدبّراً أمور الولاية، حتى بعث إلى قوم من أهالي (خرِبْتا)، وهي البلدة العثمانية المعارضة لخلافة الإمام علي عليه السّلام، فقال لهم محمد بن أبي بكر: (إما أن تدخلوا في طاعتنا، وإمّا أن تخرجوا من بلادنا، فأجابوه: إنا لا نفعل! فدعنا حتّى ننظر إلى ما يصير إليه أمرنا، فلا تعجل لحربنا. فأبى عليهم، فامتنعوا منه، وأخذوا حذرهم.
هنا تحديداً يتقرر مصير محمد بن أبي بكر (رضوان الله عليه)، حيث يتجه مسار الاحداث الى غير صالحه سياسياً واجتماعياً، ففيما هو يمارس ضغوطه ويشدد على اهل (خربتا) التي كانت بالحقيقة بمنزلة الجيب المتمرد في مصر، كان أمير المؤمنين مشغولا بحرب صفين مع معاوية وأهل الشام، وكانت اخبار هذه الحرب تصل الى أهل (خربتا)، وكانوا يقرأون قوة وضعف محمد من خلال مسرح العمليات في صفين، فلما حصلت الانتكاسة في معسكر الامام وانطلاء خدعة التحكيم، استغل الجيب المتمرد فرصة الوضع النفسي المهزوز في جبهة الامام علي عليه السلام، فاظهروا العناد والتحدي، فأرسل لهم محمدَ ابن الحرث بن جهمان الجعفي ليؤدبهم، فوصل إلى (خرِبْتا) وكان فيها يزيد بن الحرث مع بني كنانة ومن معه من قبائل أخرى مختلفة، فقاتلهم الحرث فقتلوه، فأرسل محمد إليهم ابنَ مضاهم الكلبي فقتلوه كذلك. وكان محمد قد أصاب منهم من قبل حين أرسل إليهم عمرو بن بديل بن الورقاء الخزاعي. ولكن الذي قلب الموازين هو إرسال معاوية عمرَو بن العاص في جيش جرار إلى مصر بعد عودة الإمام عليّ عليه السّلام إلى العراق.
ولما بلغ الإمام عليّا عليه السّلام اضطراب الأمر في ولاية مصر، سارع إلى إرسال قائده مالك الأشتر، وذلك قبل أن تستشري الفتنة، ولكن معاوية استطاع بحيلة منه أن يدسّ السم للوالي الجديد وهو في طريقه إلى تسلم ولايته، مستعيناً بأحد رجال الخراج في مكان يقال له (القلزم) وهو اليوم (السويس) حالياً، فشرب الأشتر وهو لا يشك في مضيّفه، شربة ماء ممزوجة بالسم والعسل فاستُشهِد، وبذلك أضحى محمد بن أبي بكر وجهاً لوجه مع اثنين من الدهاة معاوية وعمرو بن العاص.
أقبل عمرو بن العاص قاصداً مصر باتجاه محمد بن أبي بكر، فقام محمداً خطيباً فقال: (أمّا بعد، يا معاشر المؤمنين، فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة، ويفشون الضلالة، ويستطيلون بالجبريّة، قد نصبوا لكم العداوة، وساروا إليكم بالجنود، فمَنْ أراد الجنّة والمغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجاهدهم في الله. انتدِبوا رحمكم الله مع كنانة بن بشر)، ثم ندب معه نحو ألفي رجل، وتخلّف محمد في ألفين، وبعد معارك بين الطرفين، واستشهاد خيرة أصحاب محمد بن أبي بكر، وتفرّق الآخرين عنه، استطاع معاوية بن حديج وهو من أصحاب عمرو بن العاص أن يظفر بمحمد ابن أبي بكر وهو يكاد يموت عطشاً، فوثب أخوه عبدالرحمان بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص، وكان في جنده، فقال: لا والله، يُقتل أخي صبراً! ابعث إلى معاوية بن حديج فَآنْهَه عن قتله، فأرسل عمرو بن العاص أن ائتني بمحمد، فقال معاوية: أقتلتم كنانة بن بشر ابن عمي، وأخلّي عن محمد، هيهات! فقال محمد: اسقوني قطرة من الماء، فقال له معاوية بن حديج: لا أسقاني الله إن سقيتك قطرة أبداً، والله لأقتلنّك يا ابن أبي بكر وأنت ظمآن، ويسقيك الله من الحميم والغسلين، فقال له محمد: يا ابن اليهودية النسّاجة؛ ليس ذلك اليوم إليك، إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه، وهم أنت وقرناؤك ومَن تولاك وتولّيته، والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني ما بلغتم. فقال له معاوية بن حديج: أتدري ما أصنع بك ؟ أدخلك جوف هذا الحمار الميت ثم أحرقه عليك بالنار، وكان في المغارة جيفة حمار ميت. قال: إن فعلتم ذلك بي فطالما فعلتم ذلك بأولياء الله، وأيم الله إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي تخوفني بها برداً وسلاماً، كما جعلها الله على إبراهيم خليله، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه، وإني لأرجو أن يحرقك الله وإمامك معاوية، وهذا - وأشار إلى عمرو بن العاص- بنار تَلَظّى، كلّما خَبَتْ زادها الله عليكم سعيراً. إلى آخر ما دار من حوار بينهما، ثم غضب معاوية بن حديج، فقدّمه وضرب عنقه، ثم ألقاه في جوف حمار وأحرقه بالنار.
وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية بن أبي سفيان بعد قتل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر، (أما بعد، فإنا لقينا محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر في جموع من أهل مصر، فدعوناهم إلى الكتاب والسنّة، فعصوا الحق، فتهوّلوا في الضلال، فجاهدناهم، واستنصرنا الله جلّ وعز عليهم، فضرب الله وجوههم وأدبارهم، ومنحنا أكتافهم! فقُتل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر، والحمد لله رب العالمين)!!
وهكذا يقتلون أولياء الله تعالى، ولا يتورعون عن الاستشهاد بالكتاب والسنّة لتزييف الحقائق وتضليل الناس...
وهكذا انتهت حياة قائد شاب، تمثلت في شخصيته أخلاق الإسلام بصورتها الرائعة، وكان آية في التفاني والتضحية، كما تجلّت ملامح تلك الشخصيّة الفذة في الحوار الذي جرى بين محمد وبين آسره، فلم يَهنْ ولم يحزن، بل ظلّ شامخاً أبياً.
وكانت وفاة محمد بن أبي بكر في مطلع سنة 38هـ، وكان له من العمر ثمان وعشرون سنة.
1