قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الوجه الآخر لمالك بن الريب
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة منذر الخفاجي
تتجلى روعة الدراسة والبحث الادبي في الكشف عن جوانب متعددة في شخصية الشاعر ومعاناته الاجتماعية والفكرية ففي ثنايا هذه الدراسات تكمن حقيقة نفسية الشاعر وصورة ملازمة لوعيه وتوجهاته فالكثير من الدراسات الادبية الحديثة ابرزت جوانب اخرى للشاعر اغفلها المؤرخون فاعطت صورة اكثر وضوحاً عنهم ولكن تبقى الصورة الاولى مائلة في اذهان الناس الذين عدوها من المسلمات لديهم. فمن يسمع عن مالك بن الريب تتمثل له صورة ذلك الشاعر اللص قاطع الطريق الذي توفي في طريقه من فراسان وكان مع جيش سعيد بن عثمان فقال قصيدته اليائية التي رثى بها نفسه وهو يجود بروحه هذا كل ماينقله عنه المؤرخون وكأن ذلك كل حياته وهذه القصيدة كل شعره وبهذه النتيجة المثلومة ختم المؤرخون حياة هذا الشاعر برسم هذه الصورة له واهملوا جانباً آخر من حياته دونه في شعره ربما سيعطي صورة أوضح وأدق عنه اذا ماتناوله الدارسون بالبحث والتحليل وابراز قيمته الموضوعية.لقد كان مالك بن الريب من الشعراء القلائل في ذلك العصر الذين لم ينغمسوا في مدح السلطة والتقوت على موائد الخلفاء الامويين رغم انه كان شاعراً مجيداً يضاهي شعراء البلاط بل ربط حياته بحياة الفقراء المقهورين فعبر عن ألمه وألمهم في شعره الذي اهمله المؤرخون كما أهملوا شعره الذين طالب فيه مالك الخليفة والولاة بالعدل بين الناس والالتزام بالحق وكما اهملوا شعره فقد اهملوا حياته فكل ماذكروه عنه انه ولد في بادية بني تميم بالبصرة حوالي سنة 20 هـ وانه تزوج من امرأة من قومه انجبت له بنتاً سماها شهله ولكن يتضح من شعره انه نشأ فقيراً بائساً لايجد مايتقوت به ويسد رمقه ويلبي حاجة اهله فنشأ ساخطاً على السلطة واخذ يهجوا الخلفاء الامويين وولاتهم وسعاتهم ويبين ظلمهم وجورهم واستحواذهم على الاموال واستئثارهم بها في حين يعاني هو وبقية الشعب من الجوع والحاجة فراح يندد بهم ويشهر بظلمهم ومن ذلك قوله:
أحقاً على السلطات أما الذي له
فيعطى وأما ماعليه فيمنع
وما أنا كالعير المقيم لأهله
على القيد في بحبوحة الضيم يرتع
لم يكن مالك من اولئك الخاملين الذين يقبعون تحت خوف السوط والسيف رغم بطش السلطة بل كان يندد ويجاهر بالرفض ويتضح ذلك من انتقاده لسياسة الامويين الجائرة في معاملة القبائل العربية فقد اعتمدت سياستهم على التقرب الى هذه القبائل في وقت الشدة وقيام الثورات والانتفاضات ضدهم حتى اذا ماساعدتهم تلك القبائل في القضاء على الثائرين بدافع سياسة العدل التي منوهم بها الامويون وجدوا ان تلك الاماني كانت كالسراب الذي يحسبه الظمأن ماءً فما ان يقمع الامويون تلك الثورات بمساعدة هذه القبائل حتى يعودوا الى سيرتهم الاولى في الظلم والاضطهاد وقمع الحريات وسلب الحقوق وفي ذلك يقول مالك بن الريب:
لوكنتم تنكرون الغدر قلت لكم
ياآل مروان جارى منكم الحكم
واتقيكم يمين الله ضاحية
عند الشهود وقد توفى به الذمم
لاكنت أحدث سوء في إمارتكم
ولا الذي كان مني قبل ينتقم
نحن الذين إذا خفتم مجللة
قلتم لنا اننا منكم لتعتصموا
حتى اذا انفرجت عنكم دجنتها
صرتم كجرم فلا آل ولارحم
وقد قبض عليه والي مكة فحبسه وعذبه عذاباً شديداً وفي ذلك يقول مالك:
أتلحق بالريب الرفاق ومالك
بمكة في سجن يعنيه راقبه
وبقي في الحبس مدة طويلة حتى استشفع له شماس بن عقبة المازني عند والي مكة فاطلق سراحه وهناك موقف لمالك يناقض ماعرف عنه من اللصوصية وذلك لما طلبه واصحابه مروان بن الحكم وهو يومئذ عامل على المدينة وكتب الى واليه بنجد ان يتعقبهم وان يتشدد في طلبهم حتى يقبض عليهم فبعث الحارث بن حاطب الجمحي ساعياً من سعاته فأخذ مالكاً وصاحبه ابا حردبة وبقية رفاقه وارسل بهم الى المدينة مقيدين غير أن مالكاً تغفل حارسه وقتله ثم لحق بأبي حردبة وخلصه بعد ان قتل الحارس الموكل به وركبوا إبل السعاة الذين قتلوهم وفروا الى بنفسه من قبضة ليست من صفات اللص الذي يتنكر لصاحبه فكل همه ان يفر بنفسه من قبضة العدالة ولكن مالك خاطر بحياته في سبيل انقاذ صاحبه وهذه من الصفات النبيلة وتشير قصة ذهابه مع سعيد بن عثمان الى خراسان الى انها كانت مدبرة ومقصودة من قبل الامويين وذلك من سياستهم الخبيثة في الحد من خطر كل من يتهدد سلطاتهم ثم القضاء عليه في تلك البلاد البعيدة لكي لا تثار بمقتله اي بلبلة فما سر استصحاب سعيد بن عثمان لمالك وهو مبعوث من قبل معاوية بجيش نظامي لغزوا خراسان ومالك كما هو معروف لم يخضع للسلطة الامويه في يوم من الايام فكيف سيخضع لسعيد والاعتراف بأمارته عليه وهو ذاهب الى الحرب وهذا ما تأكد من خلال هجاء مالك لسعيد وتوبيخه ورميه بالجبن كقوله:
مازلت يوم الصغد ترعد واقفاً
من الجبن حتى خفت ان تتنصرا
وقوله:
ام ليس يرجوا اذا ما الخيل شمصها
وقع الاسنة عطفى حين يدعوني
لاتحسبنا نسينا من تقادمه
يوماً بطاس ويوم النهر ذا الطين
وتدلنا بائيته الباكية التي ودع بها ابنته وهو ذاهب مع سعيد الى انه كان مكرها في ذهابه يقول في مطلعها:
ولقد قلت لابنتي وهي تبكي
بدخيل الهموم قلباً كئيباً
ومنها
ليس شيئاً يشاؤه ذو المعالي
بعزيز عليه فأدعى المجيبا
ودعي ان تقطعي الآن قلبي
أو ترينحي في رحلتي تعذيبا
انا في قبضة الاله اذا كنت
بعيداً اوكنت منك قريبا
حسبي الله ثم قربت للسير
علاة انجب بها مركوبا
ثم لماذا لم يأذن له سعيد بالعودة الى أهله عندما انتهى الغزو وظل يماطله فقد فتحت خراسان فما سبب بقاؤه فيها تتضح من ذلك اسباب منها حنق سعيد عليه وغضبه منه لهجائه اياه وتوصية معاوية له بأن يبقيه بعيداً عن البلاد العربية لكي لايثير النفوس ضد السلطة الاموية بهجائه وانتقاده لسياستها فظل مالك وهو ابن الصحراء الدافئة يعاني من شدة البرد فلا يطيق زمهرير الثلوج بخراسان فترتعش اطرافه ويسأل سعيد العودة الى دياره مراراً وتكرارا من ذلك قوله:
هبت شمال خريف اسقطت ورقاً
واصفر بالقاع بعد الخضرة الشيخ
فارحل هديت ولا تجعل غنيمتنا
ثلجاً تصفقه بالترمذ الريح
ان الشتاء عدو مانقاتله
فاقفل هديت وثوب الرق مطروح
وتطول الغربة بمالك في خراسان ويملأ عليه الحنين أرجاء نفسه الى وطنه وأهله فقد طال اغترابه عاماً ونصفاً فيهتف وقد اهاجه الشوق والحنين الى اهله:
تذكرني قباب الترك اهلي
ومبد اهم اذا نزلوا سناما
وصوت حمامة بجبال كِيسٍ
دعت مع مطلع الشمس الحماما
فبت لصوتها إرقاً وباتت
بمنطقها تراجعني الكلاما
ولكن هذا الفراق لم يكتب له لقاء بعده فقد قتل مالك في ظروف غامضة وتعددت اقوال المؤرخين في موته فقيل انه طعن وهو يغزو بخراسان طعنة أودت بحياته وهذا القول مناف للحقيقة فمالك ظل بعد الغزو مدة طويلة لما ذكرنا وقيل لدغته أفعى وهذا ايضاً يصعب قبوله لان الملدوغ لايملك صبراً على المعاناة والالم ليقول مرثية يرثي بها نفسه تبلغ ستين بيتاً فسبب موته مدعاة تمحيص وتحقيق وبحث فلا مجال للشك بأن هذه وتسكين ثائرتها ضدهم بعد ان تم اغتياله غدراً ليبقى سر مقتله مجهولاُ في غياهب التاريخ ولعل فيما قدمناه مايعطي صورة اكثر من إشارة في ان الامويين كان لهم يد في قتله وليضاف اسمه الى الاسماء الكثيرة التي تلطخت ايدي الامويين بدمائها وليكون شاهداً تاريخياً أخر بدين السلطة الاموية بجرائمها اما قصيدة مالك بن الريب اليائية الشهيدة فتعد من عيون الشعر العربي وفيها حنين والم وذكريات واعتبار ندم على الاغتراب يقول في مطلعها:
ألاليت شعري هل ابيتن ليلة
بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا
فليت الغضى لم يقطع الركب عرضه
وليت الغضى ماشى الركاب لياليا
لقد كان في اهل الغضى لو دنا الغضى
مزار ولكن الغضى ليس دانيا
وفيها يقول:
تذكرت من يبكي علي فلم اجد
سوى السيف والرمح الرديني باكيا
واشقر محبوك يجر لجامه
الى الماء لم يترك له الموت ساقيا
ولكن باكناف السمينة نسوة
عزيز عليهن العشية مابيا
صريع على ايدي الرجال بقفرة
يسوون لحدي حيث حم قضائيا