قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
العولمة في الرؤية القرآنية (2 ـ3)
العالمية القرآنية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *الشيخ ماجد الماجد
تناولت الحلقة الاولى من هذه الدراسة رؤية القرآن الكريم إزاء مصطلح العولمة التي استحدثها الغرب في عقد التسعينات ويسعى اليوم لترويجها في العالم، ولو انها من الفكرة كانت موجودة في الاوساط الثقافية إنما بشكل غير معلن، وتأكد أن القرآن الكريم يرنو الى التكامل في العالم والنهوض المجموعي، ولا يعتقد بالصراع أو نهاية التاريخ كما يروج لذلك دعاة العولمة الغربية، كما إن القرآن الكريم يدعو للتعارف والتلاقي. ولا يمارس الإلغاء، وجاء: أن القرآن دستور الديانة الإسلامية، وهو دستور الأمة جمعاء، وأنه كتاب بصائر ورؤى، وفيه تفاصيل التشريع الإسلامي، ومع ذلك يوضح أن الكتب السماوية كلها كتب هداية، وتهدي إلى الصراط المستقيم.
وفي الحلقة الثانية نطرح الخيار القرآني لفكرة العولمة وذلك على ضوء النهج القرآني، لتكون عندنا عالمية قرآنية، ونطرحها من خلال المفاهيم التالية :
أولاً: ما هو دين الله؟
دين الله هو دين الوحدة بين جميع رسالات الله، وإنه دين الإيمان بما أنـزل على جميع الأنبياء الأسبقين من كتاب وحكمة ومعاجز، وهذا هو الإسلام الحقيقي دون تفريق بين كتاب عربي وآخر عبري، وبين مكة والقدس، وبين عنصر العرب واليهود، إنه دين التعالي على قيم الأرض، والتوجه إلى قيم السماء والالتقاء على صعيد الحق والعدالة بدل الانصياع للمصلحة والقومية واللغة والعنصرية. "قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (سورة البقرة /136).
ثانياً: مصدر التشريع للمنهجية العالمية..
وهو الوحي، وقد يطرح في بعض الآيات القرآنية بمعنى العلم، والبعد عن مدخلات اليهود والنصارى التي هي من فعل أهوائهم، و التي دخلها الشرك والضلال،لأن ذلك يؤدي إلى إلغاء دور الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأوصياء والمصلحين. لأن من يترك العلم إلى الهوى فسوف يخسر المستقبل ولا ينصره الله. "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" (سورة البقرة /120). ومن هنا جاءت حرمة التشريع من دون إذن الله، لأن الوحي مهمته الأولى أن يملأ فراغا حقيقيا في الحياة، والحياة هي ذاتها نعمة من الله علينا فلا يحق لنا أن نتحرك فيها من دون هدى الله الذي يرسم لنا خريطة التحرك، ويحدد معالم العمل. "قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنـزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ" (سورة يونس /59).
إن تصدي البشر لمهمة التقنين استقلالا عن الوحي أوقعها في محاذير كثيرة، وسبب لها الكثير من الأزمات والمآسي. ومن خصائص الشريعة أنها توافق الطبيعة الإنسانية، ولهذا فهي صالحة لجميع الناس، وتتلاءم مع كل العصور، وتطبيق الأحكام السماوية تساهم في حفظ الذات البشرية والشريعة، فيكون الغرض الأول أنها في صالح الإنسان باعتباره الإنساني، وتتأكد في منفعته باعتباره الإيماني.
ثالثاً: حدود المنهجية..
إن من الثوابت في المنهج الإسلامي أن شريعة الله لها حدود لا ينبغي تعديها، وهذه الحدود راعت المصالح الشرعية والحقوقية للدين والناس، وفيها من الفسحة والسعة بحيث لا تضيق على أحد، إلا من ابتغى الشهوات وأغواه الشيطان. وعدَّ القرآن التعدي لقوانين الدين تعديا على واضع المنهج وهو الله جل وعلا. ففي الفروض والواجبات يقول تعالى: "... تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (سورة البقرة /229) ثم يبين القرآن أن المؤمنين حقا هم الذين يحفظون الحدود، "التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ" (سورة التوبة /112).
وقد نصطلح على الحدود بالأوامر والنواهي، فنطبق الأمر حيث نستطيع بشرط أن لا يصطدم بالنهي، وننتهي عما حرم الله حيث لا يفوت علينا فعل الأمر. واتباع الأمر والنهي في المفهوم القرآني يعني الهدى، إذ أن الله أمرنا بالتعبد إليه في أمورنا كلها، سواء الحياتية أو العبادية، ومادمنا عبيدا لله فما علينا إلا أن نسلك ما فيه مرضاته سبحانه وتعالى، فكيف إذا كان اتباع الله فيه الخير لنا والصلاح الدائم، حيث لا منهجية أخرى تستطيع توفير المصالح المتعاضدة، خير الذات في المنفعة، وخلوص العبادة لله. "مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ" (سورة الاعراف /178).
رابعاً:التوحيد..
التوحيد يمثل عصمة الإنسان وحصنه، وهو الفطرة الإلهية التي خلق الناس عليها، وآية التوحيد في الواقع توحيد الدين. من هنا نجد القرآن ليوجه البشر إلى عدم الشرك بالله، وكما أن التوحيد يمثل كل معالم الحياة والوجود، فإن الشرك يمثل النقيض التام لكل مباني القوانين والنظم والشرائع التي ترتبط بالتوحيد، فلا أمر بالتوحيد إلا ويحمل في طياته نهيا عن الشرك. والتوحيد يمثل الاستجابة النظرية والعملية لأوامر الله، والشرك يتمثل في عصيان أوامر الله. فالقرآن يطالبنا بالتوحيد وينهانا عن الشرك، "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (سورة الروم /30). فالتوحيد ضرورة إنسانية حيث يجتمع كلٌ تحت رايته، والشرك هو المخالفة الصريحة للأوامر الإلهية. فبينما يمثل التوحيد لواء الوحدة، يمثل الشرك معولا يهدم الاجتماع الإنساني. فهل تحمل المنهجية القرآنية مصداقية النجاح؟؟.إن منهجية الدين قائمة على مصداقية النجاح باعتبار أنها من خالق الكون والإنسان، وهي قائمة على التوافق بين المنهج والوجود الكوني، بعكس العولمة المبتدعة القائمة على الأماني والآمال قاعدة ترتكز عليها.
خامساً: العدالة في المنهجية..
من أهداف رسالات الله توحيد الناس على الحق ورفع اختلافهم فيه، كما أنها ضد البغي على الناس وظلمهم. والعدل لا يقوم أساسا على السيف، وإنما على ارتفاع فهم الناس العقائدي، وإخلاصهم للدين والعقيدة، وإيمانهم الخالص بحق الجميع في الحياة دون تعد أو قهر. من هنا ربط القرآن الكريم العدل والعدالة بالكتاب أولا، إذ أن الكتاب قائم على التبشير بحياة أفضل والإنذار من العاقبة السيئة وهي الترهيب. "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (سورة البقرة /213)، فالاختلاف بسبب التعدي والظلم، أما الذين رضوا الحق مقياسا لهم فهم الذين استفادوا من هدى الله ورسالته وحلّت خلافاتهم.
ويتناول القرآن مسؤولية السلطة في تحقيق العدالة، وليس للسلطة قيمة ذاتية، وإنما هي وسيلة لتحقيق العدالة، التي تعني حصول كل شخص على حقه كاملا غير منقوص.ولا يستطيع أحد تحقيق العدالة إلا سلطان الله في أرضه المتمثل في قيادة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر من بعده، وكل سلطة غير هؤلاء تمثل الطاغوت الذي أُمرنا بالكفر به. وفي الوقت ذاته يرفض القرآن التوجه إلى قضاء حكام الجور، "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنـزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا" (سورة النساء /60).
ويعد القرآن الكريم المجتمعات باجمعها رقما قويا في معادلة الصراع ضد الظلم والتعدي، مما يسهم في نظافة المجتمعات من سيئات البغي، والتنعم بسعادة العدل، وذلك في صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأيضا في ممارسة دور الشهادة مع المظلوم وضد الظالم، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً" (النساء /135) والقرآن يطالب الأمة الإسلامية بالعدل بين أفرادها ومع بقية الأمم، فهو يأمرنا بتنمية روح العدالة في وجداننا، لأن الظلم يسهم في سلب حرية الأمم، والعدل يعطي الحرية للأمم، ويحفظ لها حقوقها وخيراتها. ومن هنا يعد القرآن القصاص قائما على احترام الذات الإنسانية، والحياة لها قيمتها عند جميع الشرائع السماوية، والحياة لها خاصيتها بغض النظر عن الجسد الذي تجسدت فيه، فلو استهان القانون بحياة تلبست بمخلوق من البشر فإن الحياة تكون كلها في خطر، ولهذا عد القرآن قتل نفس كقتل الناس جميعا، وإحياءها إحياء للجميع، "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً. .." (سورة المائدة /32).