قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

أبو العلاء المعري .. شاعر رأى حقائق الانسانية بنور البصيرة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *هادي الشمري
قف بالمعرة وامسح خدّها التربا
واستوحِ من طبب الدنيا بحكمته
وسائل الحفرة المرموق جانبها
يا برج مفخرة الاجداث لاتهني
العجـــــز
واستوحِ من طوّق الدنيا بما وهبا
ومن على جرحها من روحه سكبا
هل تبتغي مطمعاً أو ترتجي طلبا
ان لم تكوني لابراج السما قُطبا
بهذه المقدمة الرائعة يستهل الجواهري واحدة من أروع قصائده التي تعد من الملاحم الشعرية الناردة في الادب العربي الحديث والتي ألقاها في الذكرى الالفية لابي العلاء المعري عام 1944م في دمشق. ونلمس من هذه المقدمة إيجازاً يعطي صورة واضحة الملامح والمعالم عن شخصية ابي العلاء.
ونظرة سريعة الى النسيج الشعري الرائع في هذه المقدمة يتبين لنا مدى الصيغة الانسانية التي أضفاها الشاعر الجواهري على أبي العلاء وخاصة في البيت الاخير الذي اعطاه فيه صفة الخلود التي لم ينلها من الشعراء الا القلّة منهم.
جاء أبو العلاء المعري الى هذه الحياة فملأها دويّاً وكثر عنه الحديث بين مؤيد له ومتهجّم عليه، وكل هذه الاختلافات تدل على سموه وعظمته ولا تزال أراؤه تتجدد واشعاره تتناقل حتى اخذ عنه الفلاسفة والمفكرون والشعراء في مختلف الازمان والبلاد.
في عام 363هـ ولد في (معّرة النعمان) من جعل اسمها تتناقله الافواه وأعلى شأنها على كثير من البلدان ففي ذلك الوقت كانت هذه المدينة تحت سيطرة الدولة الحمدانية بحلب وكان اميرها يومئذ سعد الدولة ابو المعالي ولم يكن هناك مايميزها عن بقية البلاد حتى جاء هذا الوليد الجديد وهو ابو العلاء احمد بن عبد الله بن سليمان المعري التنوخي، عربي النسب من قبيلة تنوخ بطن من قضاعة، كان جده سليمان التنوخي قد تولّى القضاء في معرة النعمان وكان ابوه عبد الله من أهل الادب، أما امه فهي من اسرة عرفت بالوجاهة ويعرفون بآل سبيكة وقد اشتهرت منها اسماء كثيرة في عالم الادب والعلم. لم يتم ابو العلاء الثالثة من عمره حتى اصابه الجدري فذهبت عينه اليسرى وبعد عام غشي العين اليمنى بياض فكفّ بصره وهو طفل لايعرف من الالوان سوى الاحمر لأنهم ألبسوه وهو مصاب بالجدري ثوباً مصبوغاً بالعصفر. لقّنه ابوه النحو واللغة على حداثته ثم قرأ على جماعة من أهل بلده فكان مطبوعاً على الشعر وقد جاءت قريحته به قبل ان يتم الحادية عشرة من عمره كما لم يمنعه العمى عن خوض شتى العلوم فلم يبلغ العشرين من عمره حتى احاط بسائر علوم اللغة وآدابها واكتسبها بالمطالعة والاجتهاد فكان يقيم أُناساً يقرأون له كتبها واشعار العرب واخبارهم وقد تمتع من جانبه بحافظة تفوق التصديق الى درجة انه لم يكن يرى في العمى نقصاً ففاق اقرانه في شتى العلوم وكان يقول: (احمد الله على العمى كما يحمده غيرى على البصر). وقد تكفف عن الناس بما يدرّ له وقف ورثه يحصل له منه ثلاثون ديناراً في العام ينفق نصفها على من يقرأ له ويخدمه.
اخذت شهرة ابي العلاء وفطنته وسعة علمه تتناقلها الافواه في الآفاق ورحل في طلب العلم على عادة ذلك الوقت فأتى طرابلس واللاذقية وسواهما من بلاد الشام واخذ العلم والفلسفة ولكنه لم يجد في هاتين البلدتين وغيرهما مايشفي غليله اذ كانت بغداد في ذلك الوقت منارة العلم ومطمح كل طالب علم ومهوى افئدة العلماء والمتعلمين فرحل إليها عام 398هـ وقد سبقته إليها شهرته فاستقبله علماؤها بالحفاوة فكان ابو العلاء إنفاً عزيز النفس. روي انه لما ورد بغداد قصد ابا الحسن علي بن عسيى الربعي ليقرأ عليه فلما دخل عليه قال الربعي: ليصعد الاصطبل فخرج مغضباً ولم يعد إليه والاصطبل في لغة أهل الشام (الاعمى).
و روى الشيخ عباس القمي في الكنى والالقاب انه ـ اي المعري ـ لما سمع فضائل الشريف المرتضى وشهرته في العلم وسعة اطلاعه اشتاق الى زيارته فحضر مجلسه وكان سيد المجالس في ذلك الوقت فجعل يخطو ويدنو الى الشريف المرتضى فعثر برجل من اهل المجلس فصاح الرجل: من هذا الكلب؟! فقال المعري: (الكلب من لايعرف للكلب سبعين اسماً) فلما سمع الشريف ذلك منه اعجب به وقربه وادناه فامتحنه فوجده وحيد عصره واعجوبة دهره فاصبح ابو العلاء من روّاد مجلس الشريف وشعرائه وقد جرت بينهما مذاكرات في الرموز فوجد كل منهما في الآخر ضالته مما أثار نفوس الحاسدين وضغائن المبغضين فاخترعوا لهما قصة وضعوها للتقليل من شأنهما وهي قصة اخراج المرتضى ابا العلاء من مجلسه بسبب بيت المتنبي بزعمهم ان المعري قد نعت به الشريف وقد باينت هذه القصة الموضوعة كل الحقائق التاريخية التي اكدت العلاقة الوثيقة التي ربطت بين هذه العلمين كما فند هذه القصة السيد محسن الامين في (اعيان الشعية) و اوفى الحديث عنها ورد اباطيلها، ومما يدل على هذه العلاقة الطيبة التي جمعت بينهما ان المعري حين خرج من العراق سُئل عن الشريف المرتضى رضي الله عنه فقال:
شطــــر
ياسائلي عنه لما جئت اسأله
لو تجئته لرأيت الناس في رجلٍ
عجــــز
ألا هو الرجل العاري من العارِ
والدهر في ساعة والارض في دارِ
أقام ابو العلاء المعري في بغداد سنة وسبعة اشهر ثم غادرها الى بلدته فأقام بها ولزم بيته متفرغاً للتأليف بعد ان اطلع على سائر العلوم ونضج عقله وامعن النظر في الوجود فرأى الدنيا كما هي فزهد فيها وعزم على اعتزال الناس متخذاً من الكتاب سميره وانيسه وسمّى نفسه (رهين المحبسين)؛ العمى والمنزل. اخذ بتدوين الافكار والآراء
شطــــــــر
نوّر لنا اننا في اي مدّلج
ابا العلاء وحتى اليوم مابرحت
يستنزل الفكر من عليا منازله
وزمرة الادب الكابي بزمرته
تصيّد الجاه والالقاب ناسية
وان للعبقري الفذ واحدة
عجـــــــز
مما تشككت ان صدقاً وان كذبا
صناجة الشعر تهدي المترف الطربا
رأس ليمسح من ذي نعمة ذنبا
تفرّقت في ضلالاتِ الهوى عصبا
بأن في فكرة قدسية لقبا
اما الخلود واما المال والنشبا
ونظرة سريعة الى هذه الابيات تتبين صورة ابي العلاء الخالد والنموذج للاديب الانساني الذي لايتعكّز على شعره بالتملق ولايرتزق به لممدوح او حاكم او صاحب مال بل يسعى لخدمة الانسانية بآرائه دون مقابل.
وبقي ابو العلاء مكباً على التأليف والشعر فقضى في عزلته اربعين عاماً لايتناول من الطعام سوى العدس والتين في الايام القيلة التي يكون فيها مفطراً:
على الحصير وكوز الماءِ يرفده
وفي الجدارِ رفوفٌ تحمل الكُتبا
وكان يقيم الفرائض بأوقاتها وفي بعض الايام يتوافد على الناس ليستمعوا الى اقواله واخباره او يكاتبوه في استفهام او استفتاء ويأخذوا عنه العلم مجاناً فكان قطب رحى العلوم والآداب في مدينته وقد رويت عن فطنته وذكائه وسعة علمه روايات كثيرة عجيبة لامجال لذكرها الآن. خلّف ابو العلاء مؤلفات عديدة في الدين والادب والشعر والفكر وترجمت أكثر مؤلفاته الى لغات مختلفة كالفرنسية والانجليزية والالمانية، ففي الشعر له ثلاثة دواوين هي (اللزوميات) ويشتمل على اشعاره في الفلسفة والزهد والحكمة والوصف وقد ترجم بعضها الى الانجليزية والفرنسية ونشر في امريكا وفرنسا وقد التزم في هذا الديوان كما دل عليه عنوانه حرفين في القافية وكتبه اثناء عزلته وكان قد كتب ديوانيه الآخرين قبل العزلة وهما (سقط الزند) و (ضوء السقط). اما في الادب والعلوم الاخرى فله مايزيد على خمسين كتابا منها (رسائل ابي العلاء) وهي في وصف الخلائق كالحيوانات والحشرات والامكنة والبقاع وغيرها وقد ترجمها المستشرق الانجليزي مرجليوت مع مقدمة له وطبعت في اكسفورد، وفي الادب ايضاً ألّف المعري كتاب (الايك والغصون) او (الهمزة والردف) وهو في الادب. و(اخبار المعري) وهو اكثر من مئة جزء قال فيه الذهبي: (حكى من وقف على المجلد الاول بعد المائة من كتاب الهمزة والردف فقال: لا أعلم ماكان يعوزه بعد هذا المجلد)؟! اما في الفلسفة فقد ألفّ المعري (ملقى السبيل) وهي رسالة فلسفية كما ألفّ كتاباً في فضائل امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام ذكره الحموي في معجم الادباء وفضلاً عن هذه المؤلفات فقد عُني المعري بشرح كتب هامة منها شروح الحماسة وديوان المتنبي بشرحين هما (اللامع العزيزي) و (معجز أحمد).
توفي ابو العلاء يوم الجمعة ثاني ربيع الاول سنة 449 هـ عن 86 سنة ولما مات انشد على قبره اربعة وثمانون شاعراً مراثٍ منها هذه الابيات لعلي بن الهمام من قصيدة طولية:
شطـــــــر
ان كنت لم ترق الدماءَ زهادةً
سيّرت ذكراً في البلاد كأنه
ونرى الحجيج إذا أرادوا ليلة
عجــــز
فلقد أرقت اليوم من جفني دما
مسكٌ مسامعها يضمّخ أو فما
ذكراك اوجب فدية من أحرما
يقول: ان ذكرى ابي العلاء طيبٌ، والطيب لايحل لمحرم وإن أتاه فتجب عليه فدية.