قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
كشاجم..
شاعر متعدد المواهب
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة حسن محمد مراد
مما لا ريب فيه أن القرن الرابع الهجري يمثل الفترة الذهبية في تاريخ العلوم والمعارف الاسلامية إذ شهد ذلك القرن حركة علمية وأدبية شاملة كان محورها الكثير من العلماء والأدباء والمفكرين الذين كانوا أقطاب مجالس الفقه والتفسير والحديث والمنطق والفلسفة والتاريخ والأدب والنحو واللغة، فبلغ ذلك العصر بهم أوج كماله واتساق معالمه، ولعل من أهم الاسباب التي ساعدت على ولادة هذه الحركة هو حرية الرأي وتتبع العلاقات الواشجة بين الأمم وتلاقح الثقافات وغيرها من العوامل المؤثرة والمتأثرة التي اتكأت عليها هذه الحركة غير أن العالم الأهم في إزدهار هذه الحركة هو أنها نهلت من الثقافة الاسلامية تراثها العظيم فكان هذا العامل هو المحور الذي دارت عليه العلوم والمعارف لهذه الحركة التي ازدهرت بتعدد عناصرها وتشكيل سماتها. وكانت المجالس العلمية في ذلك الوقت تزخر بمختلف العلوم فلم يكن المجلس الواحد يقتصر على علم واحد وهذا ما جعل روادها يبدعون في أكثر من مجال علمي وهذا ما اجتمع لشاعرنا ابي الفتح محمود بن محمد بن الحسين بن سندي بن شاهك الرملي المعروف بـ (كشاجم) والذي لقب بهذا اللقب إشارة بكل حرف منها الى علم: فبالكاف الى أنه كاتب، وبالشين الى أنه شاعر، وبالألف الى أدبه، أو إنشائه، وبالجيم الى نبوغه في الجدل أو جوده، وبالميم الى أنه متكلم، أو منطقي، أو منجّم وقيل إنه فضلاً عن نبوغه في هذه العلوم فقد برع أيضاً في الطب فزيد على لقبه حرف الطاء فقيل طكشاجم، إلا أنه لم يشتهر به.
كان شاعرنا نابغة من نوابغ عصره شاعراً وكاتباً ومتكلماً ومنطقياً ومحدِّثاً ومحققاً ومجادلاً وجواداً ورغم براعته في جميع ما ذكرناه من العلوم إلا أنه أولع بالشعر فكان لا يجارى ولا يبارى حتى أن السري الرفاء الشاعر الكبير المعروف على تقدمه في فنون الشعر كان مغرىً بنسخ ديوانه وكان يسعى الى محاكاته وقد غلبت على شاعرنا شهرة الشعر حتى قيل:
يا بؤس من يُمنى بدمعٍ ساجمِ يهمي على حجبِ الفؤاد الواجمِ
لولا تعلّله بكأسِ مُدامةٍ ورسائل الصابي وشعر كشاجمِ
ويجد القارئ شواهد ذلك من خلال ديوانه الذي تطفح فيه علائم تضلعه في اللغة والحديث وبراعته في فنون الأدب والكتابة.
ولد كشاجم في الرملة وهي من نواحي فلسطين ولكن المصادر لم تشر الى سنة ولادته على وجه التحديد لكن يلوح من خلال شعره الى أنه ولد أواخر القرن الثالث كما يلوح ذلك من سنة وفاته (360 هـ) كما لم تشر المصادر الى نشأته الأولى وتعليمه غير أن الذي يتبين من خلال المصادر الى أنه غادر مسقط رأسه – الرملة – في سن مبكرة فكان مغرماً بالترحال فساح في البلاد ورحل رحلة بعد أخرى الى مصر وحلب والشام والعراق وهذا ماطفح في شعره:
هذا على أنني لا استفيق ولا أفيق من رحلةٍ في إثرها رِحلَه
وما على البدر نقص في إضاءته أن ليس ينفك من سيرٍ ومن نَقلَه
وقال وهو في مصر:
قد كان شوقي الى مصر يؤرقني فاليوم عُدتُ وعادتْ مصرُ لي دارا
أغدو الى الجيزة الفيحاء مصطحباً طوراً وطوراً أرجّي السيرَ أطوارا
وكأنه في رحلاته يرى نفسه بين مصر والعراق ويتذكر ما لاقى فيهما من مواقف مختلفة قد تتباين من رحلة الى أخرى، فيقول:
متى أراني بمصر جارهم نسبي بها كل غادةٍ خضِره
والنبل مستكمل زيادته مثل دروع الكماة منتثره
تغدو الزواريق فيه مصعدة بنا وطوراً تروح منحدره
وتارة في الفرات طامية أمواجه كالخيال معتكره
حتى كأن العراق تعشقني أو طالبتني يد النوى بِتِره
وكان في رحلاته الكثيرة يجتمع مع الملوك والامراء والوزراء ويتصل بأرباب العلم والفقه والحديث والأدب فيقرأ عليهم ويسمع منهم كما جرت بينه وبينهم محاضرات ومناظرات ومكاتبات كثيرةدلت على تضلعه في مختلف العلوم حتى عرّفه المسعودي في مروج الذهب ج4 ص348 بأنه: (كان من أهل العلم والرواية والأدب) كما دلت آثاره على سلامة نفسه وطيب سريرته ومكارم اخلاقه والترفع عن التملق عند أبواب السلاطين والاشغال في أبواب الملوك والولاة فكان يرى أن الدخول في هذه الأمور من مرديات النفوس فيقول:
رأيت الرئاسة مقرونة بلبس التكبّر والنخوه
إذا ما تقمصها لابس ترفّع في الجهر والخلوه
ويقعد عن حق أخوانه ويطمع أن يهرعوا نحوه
وينقصهم من جميل الدعاء ويأمل عندهم خطوه
فذلك إن أنا كاتبته فلا يسمع الله لي دعوه
ولستُ بآتٍ له منزلاً ولو أنه يسكن المروه
فكانت نفسه تأبى أن يتقلد منصباً يوجب دحض الحق وإضاعة الحقوق ونبذ العدل فكان من مصاديق الآية الكريمة: (يخرج الطيب من الخبيث)، فالقارئ يتفاجأ عندما يعرف أن جد شاعرنا هو السندي بن شاهك المعادي لأهل البيت (ع) والذي تولى سجن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) وشدد عليه في سجنه حتى مات مسموماً لكن حفيد ذلك الخبيث وهو شاعرنا قد خالف جده وصار من شعراء أهل البيت المجاهرين بولائهم والذابين عنهم متفانياً في محبتهم صادقاً في مودتهم يناظر أعداءهم ويفحم مناوئيهم بالحجج القوية وقد طفح شعره بمدحهم ومراثيهم واظهار مناقبهم وفضائلهم ولعل أهم ماكان يجري عليه الشعراء في ذلك العصر الذي زاغت فيه النحل والمذاهب وشاعت فيه الاهواء والآراء هي قضية الخلافة بعد الرسول (ص) فما كان من شاعرنا إلا أن أدلى بدلوه فكانت له قصائد كالسهام في نحور الجاحدين والمبغضين لأهل البيت، فمن قصيدة له يذكر حق أمير المؤمنين في الخلافة:
وقد علموا أن يوم الغدير بغدرهم جرّ يوم الجملْ
فيا معشر الظالمين الذين أذاقوا النبي مضيض الثكلْ
الى أن يقول:
يخالفكم فيه نص الكتاب وما نص في ذاك خير الرسُلْ
نبذتم وصيته بالعراءِ وقلتم عليه الذي لم يَقلْ
وفيها يذكر الأئمة الطاهرين، فيقول:
همُ حجج الله في خلقه ويوم المعاد على من خذلْ
ومن أنزل الله تفضيلهم فرد على الله ما قد نزلْ
فجدهم خاتم الانبياء ويعرف ذاك جميع المللْ
ووالدهم سيد الأوصياء ومعطي الفقير ومردي البطلْ
وكان شاعرنا يصدر شعره عن مرآة صافية لنفسه الولائية الخالصة التي تعلقت بحب أهل البيت (ع) وصفت ورقت بمودتهم، حيث يقول:
وأوصى النبي ولكن غدت وصاياه منبذة بالعراءِ
ومن قبلها أُمر الميتون برد الأمور الى الأوصياءِ
ولم ينشر القوم غلّ الصدور حتى طواه الردى في رداءِ
ولو سلّموا لإمام الهدى لقوبل معوجّهم باستواءِ
وتعبيره يصور ما تنطوي عليه أعماقه من الحب لأهل البيت (ع) فلنستمع إليه في هذه الأبيات:
آل النبي فضلتمُ فضل النجوم الزاهرة
وبهرتمُ أعداءكم بالمأثرات السائرة
ولكم مع الشرف البلاغة والحلوم الوافرة
واذا تفوخر بالعلا فبكم علاكم فاخرة
هذا وكم أطفأتم عن أحمد من نائرة
بالسمر تخضب بالنجيع وبالسيوف الباترة
تشفى بها أكبادكم من كل نفس كافرة
ورفضتم الدنيا لذا فزتم بحظ الآخرة
ولشاعرنا في رثاء شهيد كربلاء الإمام الحسين (ع) قصائد، يقول في احداها:
أظلم في كربلاء يومهم ثم تجلّى وهم ذبائحه
على ثرى حلّة غريب رسول الله مجروحةٌ جوارحه
ذل حماه وقلّ ناصره ونال أقصى مناه كاشحه
ثم يقول:
عفّرتم بالثرى جبينَ فتىً جبريل قبل النبي ماسحه
سيان عند الإله كلكم خاذله منكم وذابحه
على الذي فاتهم بحقهم لعن يغاديه أو يراوحه
جهلتم فيهم الذي عرف البيت وما قابلت أباطحه
وله في ولاء أمير المؤمنين (ع):
حب الوصي مبرّة وصِلَة وطهارةٌ بالأصل مكتفلَه
والناس عالمهم يدين به حباً ويجهل حقه الجَهَلَه
ويرى التشيع في سراتهم والنصب في الأرذالِ والسفلَه
كما طفحت في ديوانه لآلئ الحكم ودرر المواعظ التي أعربت عن سمو نفسه ونبل مقصده في الدعوة الى الخير وردعها عن السوء ومن ذلك قوله:
عجبي ممن تعالت حاله وكفاه الله زلات الطلبْ
كيف لا يقسم شطري عمره بين حالين نعيمٍ وأدبْ
فإذا ما نال دهراً حظّه فحديث ونشيد وكتبْ
مرة جداً وأخرى راحة فإذا ما غسق الليل انتصبْ
يقتضي الدنيا نهاراً حقها وقضى لله ليلاً ما يجبْ
تلك أعمال متى يعمل بها عامل يسعدْ ويرشدْ ويصِبْ
ومن ذلك ايضاً قوله:
رُض بفعل التدبير نفسك واقصرها عليه ففيه فضلٌ وفخرُ
لا تطعها على الذي تبتغيه وليرُعها منك اعتساف وقهرُ
إن من شأنها مجانبة الخير وأتيان كل من قد يغرُ
وهناك الكثير من الأغراض والشواهد الصادقة والمعاني السامية إمتلأ بها ديوانه.