قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
من المواقف الخالدة
بين طلب العلم واستلام أموال الإرث
لابد أن يشكر الله كثيراً من يوفقه الله سبحانه وتعالى لطلب العلم، ذلك إن هذا العلم هو الذي يقرّب الانسان الى ربه أكثر من أية وسيلة أخرى، وهذا ما يصرّح به القرآن الكريم: "إنما يخشى اللهَ من عياده العلماء" لذا فأن الطالب يجب أن يعرف قيمة ما يسعى إليه وحجم النعمة التي هو فيها، حتى يستطيع أن يعطيها كامل حقها.
فمن يدخل هذا الميدان يجب أن ينسى كل شيء ويتوجه بفكره وذهنه ونفسه إلى دروسه وكتابه ويمنع نفسه من التأثر بأي ظرف يمنعه عن طلب العلم، ولنتصفح هنا سيرة حياة العلماء الذين أفنوا عمرهم في سبيل طلب العلم، وهذا هو أحدهم العلامة الجليل الشيخ محمد مهدي النراقي صاحب كتاب (جامع السعادات)، هذا السفر الأخلاقي العظيم، الذي قلّما جاء بمثله عالم على مرّ التاريخ الشيعي.
كان الشيخ النراقي يدرس في حوزة إصفهان الدينية لدى إستاذه المولى إسماعيل الخاجوئي، فقد تعهد الشيخ مع نفسه بأن لايفتح خلال سني دراسته أية رسالة تأتيه من أهله لكي لاينشغل باله عن طلب العلم بأمور الدنيا والمشاكل الإجتماعية التي قد تتطلب منه وقتاً أطول.
وصادف في تلك الأثناء أن قُتل والده (أبو ذر) في القرية التي يسكنون فيها، فبعث أهل القرية إليه نبأ الحادث وطلبوا إليه الحضور إلى القرية من أجل تسوية أمور التركة والمواريث وشؤون عائلية تستوجب حضوره، لكنه كعادته لم يفتح هذه الرسالة أيضاً ولم يعلم بما جرى لعائلته، ولما طالت المدة كتبوا إليه للمرة الثانية ولكن من دون جدوى، ولما يئسوا منه كتبوا إلى استاذه يخبرونه بالنبأ ويطلبون منه حثه على المجيء إلى القرية، فجاءه إستاذه المولى إسماعيل لكي يخبره بوفاة أبيه ممهداً لذلك بقوله: أن والدك أصيب بحادث ولابد أن تذهب إلى زيارته، ولكن الشيخ لم يقتنع، ولم يزد أكثر من الدعاء لوالده طالباً من استاذه أن يعفيه من الذهاب إلى هناك، وعندئذ إضطر الاستاذ أن يصرح له بواقع ما حدث، ومع ذلك فأن الشيخ لم يعبأ بالأمر وأصرّ على البقاء لتحصيل العلم واكتفى بالترحم على والده!
إلاّ أن الاستاذ هذه المرة لم يجد بداً من أن يفرض عليه السفر، وهكذا امتثل الشيخ النراقي هذا الشاب العاشق للعلم وذهب إلى قريته لكنه لم يمكث فيها طويلاً فبعد عدة أيام عاد إلى مدرسته وانشغل بدراسته.
قليل من الناس من يسمع أنه حصل على تركة كبيرة، ويهمل الموضوع دون أن يعيره أية أهمية، لكن الشيخ النراقي كان واحداً من أولئك القلائل الذين لم تأثر عليهم مباهج الدنيا وزخارفها وانصرف إلى تحصيل العلم مشاعره وأحاسيسه كافة، وهكذا نفسية عالية وهمّة كبيرة جديرة بأن تقدم للمكتبة الاسلامية موسوعة مثل (جامع السعادات) من ثلاث مجلدات، والذي يعني بالأخلاق بكل تفاصيلها.