قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

(أبو الطفيل) عامر بن واثلة .. شاعر الولاية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *علي ياسين
فارس صفين وشاعرها، لُقب بـ (حبيب علي) عليه السلام، (سيد كنانة)، (صحابي جليل)، (شيعي صلب الولاء والعقيدة). انه صوت هادر طالما دوى في ساحات (الجمل) و(صفين) و (النهروان) صادحا بنصرة الحق وفضح الباطل فبقيت اصداء أبياته تتوعد عروش بني أمية بالزوال وتسخر من بطش الظالمين، ولم يخفت هذا الصوت على مدى عمره المديد في اعلان مظلومية أهل البيت عليهم السلام حتى الرمق الاخير، فقد قيض الله له ان يكون آخر المعمرين من الصحابة ممن رأى النبي صلى الله عليه وآله. فعاش عمره الطويل مدافعا عن مبادئه الحقّة مستميتاً في الذبّ عنها وكلما تقادم عمره زاد اصرارا عليها:
لك الخيرُ لو ابصرتني يوم مأزقٍ
وقد لمعت فيه السيوفُ القواطعُ
وعند الندى ناهيك بي من أخي الندى
وعند حجاجُ القوم قولي قاطعُ
وما شاب رأسي من سنين تتابعت
عليّ ولكن شيبتني الوقائعُ
وما قصُرت بي همتي دون بُغيتي
ولا دنّستني منذ كنتُ المطامعُ
انه أبو الطفيل عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمير بن جابر بن حميس بن جدي بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان حامل راية كنانة وقائدها في صفين بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام وفيها يقول:
حامت كنانة في حربها
وحامت تميمٌ وحامت أسدْ
وحامت هوازن يوم اللقاء
فما خام منا ومنهم أحدْ
طحنّا الفوارس وسط العجاج
وسقنا الزعانف سوق النقدْ
وقلنا عليٌ لنا والدٌ
ونحن له طاعةً كالولدْ
الشعر في خدمة المبادئ
ذكرت اغلب المصادر المتسلسلة على انه ولد في عام أُحد، وهذا يعني أنه أدرك ثماني سنين من حياة النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وهناك مصادر قالت انه كان بدرياً بأسانيد متعددة واغرقت بعض المصادر في سنة ولادته في روايات دلت على انها كانت قبل عام أحد بكثير، واذا سلمنا ان ولادته كانت على اقل تقدير في عام احد حيث انه ليس هناك مصدر واحد يقول بان ولادته كانت بعد عام احد، فانه يعد من الصحابة الاجلاء وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله معاينةً لا نقلا. اما ولاؤه وتشيعه فقد أكده القاصي والداني ومن المؤرخين اضافة الى اشعاره التي صدح بها في حياته والتي اكدت شاعريته الكبيرة واضافت اسما كبيرا الى رصيد الادب الشيعي الثر. وكثيرةٌ هي الروايات التي نوهت بهذه الشاعرية الكبيرة، نقتبس منها ما رواه بعض المؤرخين، فهذا ابو الفرج الاصفهاني ينقل لنا في (الاغاني) ج15 ص 148 : (انه قال بشر بن مروان حين كان واليا على العراق للشاعر الكناني انس بن زنيم: انشدني افضل شعر قالته كنانة فانشده قصيدة لابي الطفيل فقال له بشر : صدقت هذا أشعر شعرائكم) وهذه الشهادة لاتحتاج الى نقاش لانها صدرت من شاعر يحسب لتقييمه ما يجب ان يكون عليه الشاعر. ودخل ابو الطفيل على معاوية فقال لجلسائه: (هذا حبيب علي وفارس أهل صفين وشاعرهم) وكذلك سماه ابن قتيبة الدينوري في (الامامة والسياسة) في ترجمته ج1 ص214 وعده ابن ابي خيثمة من (شعراء الصحابة)، وترجم له المرزباني في (اخبار شعراء الشيعة)، فذكره أول واحد من سبعة وعشرين شاعراً من شعراء الشيعة الكبار كما ترجم له ايضا السماوي في (الطليعة من شعراء الشيعة) وكذلك الصغائي في (نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر)، وقال: (كان فارساً كريماً شجاعاً شاعراً). كما ترجم له ايضا الاصفهاني في (الاغاني) بشكل وافٍ ونقل عنه أخباراً كثيرة، وعده الزركلي في (الاعلام) شاعر كنانة وأحد فرسانها، وكذلك عبد الحسين طه في (أدب الشيعة).
وهناك مصادر كثيرة ترجمت لشاعرنا ونقلت بعض اشعاره تركناها خشية الاطالة ولكنها تتفق مع ما ذكرنا في ترجمته مع اختلاف طفيف غير ان (النجاشي) في رجاله ص 244 والطهراني في (الذريعة) ج1 ص317 قالا: (ان عبد العزيز بن يحيى الجلودي المؤرخ الاديب ألّف كتابا سماه (اخبار ابي الطفيل) كما ذكر السيد الامين في (اعيان الشيعة) ان لابي الطفيل ديوان شعر طبعه بعض المستشرقين الالمان، وقال الشيخ عبد الهادي الاميني: ان ديوانه طبع في لندن.
وقد جمع شعر (ابي الطفيل) الطيب العشاش ونشره في حوليات الجامعة التونسية سنة 1973 العدد العاشر واستدرك عليه ما فاته الاستاذ ضياء الدين الحيدري ونشره في مجلة (البلاغ) الكاظمية سنة 1975 العدد 27 ـ 31، أما اغراض شعره فقد حمل اغلبه الطابع الديني - السياسي.
التشيع .. سيفاً وفكراً وشعراً
لنعد الى شاعرنا الذي حمل التشيع سيفا وفكرا وشعرا طيلة حياته وجسده في سره وجهره، وشارك علياً في جميع حروبه وكان له فيها صولات وجولات و اراجيز مع قومه في نصرة امير المؤمنين عليه السلام وطالما سمعه العسكر يردد:
قد صابرت في حربها كنانه
والله يجزيها بها جنانه
من أفرغ الصبر عليه زانه
أو غلب الجبن عليه شانه
أو كفر الله فقد اهانه
غداً يعضّ من عصى بنانه
كان ابو الطفيل اضافة الى كونه صحابياً جليلاً، فقد كان من ثقات امير المؤمنين عليه السلام، فقد ذكر الكليني في رسائله انه دعا امير المؤمنين عليه السلام كاتبه عبيد الله بن ابي رافع فقال: أدخل الي عشرةً من ثقاتي فقال: سمهم لي يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام: أدخل الاصبغ بن نباتة وأبا الطفيل عامر بن واثلة الكناني... وكل تراجمه اكدت على انه كان من (مخلصي الشيعة) و (من خيار اصحاب علي) و (من أخص الناس بعلي) و (صاحب رايته) و (ممن يحملون عنه العلم). وقال المازندراني في (شرح اصول الكافي): كان من اصحاب رسول الله واصحاب علي واصحاب الحسن والحسين وعلي بن الحسين وكما حمل ابو الطفيل راية الجهاد مع امير المؤمنين عليه السلام، فقد حمل راية الثأر من قتلة الامام الحسين مع المختار ابنه الطفيل الذي قتل مع المختار فرثاه ابوه بقصيدته البائية المفجعة:
خلّى طفيلٌ عليّ الهم وانشعبا
فهدّ ذلك ركني هدّةً عجبا
وابني سمية لا أنساهما ابداً
فيمن نسيتُ وكلٌ كان لي وصبا
مهما نسيت فلا أنساه إذ حدقت
به الاسنة مقتولا ومنسلبا
وهي قصيدة ملتهبة أججها فقدان ولده الطفيل فيبكيه بكاءً مراً:
وما طفيل بوقّافٍ إذا افترست
زرق الاسنة هيابٍ اذا ركبا
فاملك عزاءك ان رزء بليت به
فلن يرد بكاء المرء ما ذهبا
وليس يشفي حزينا من تذكره
إلا البكاء اذا ما ناح وانتحبا
كما يبكي نفسه بعد أن شاب رأسه ورق جسمه و هزل عوده:
فاذهب فلا يبعدنك الله من رجل
فقد تركت رقيقا عظمه وصبا
تركتني حين لا مال أعيش به
وحين جنّ زمان الناس أو كلبا
واخطأتني المنايا لا تطالعني
حتى كبرت ولم يتركن لي نشبا
ولكن عزاء أبي الطفيل، ان الطفيل كان المجاهد الباسل القتيل الذي استبسل في اخذ الثأر من قتلة الحسين عليه السلام ولم يكن من اصحاب الموقف المتخاذل من الذين فروا وأدبروا وتركوا نساءهم للسبي:
حتى وردت حياض الموت فانكشفت
عنك الكتائب لاتخفي لها عقبا
وغادروك صريعاً رهن معركة
ترى النسور على القتلى بها عصبا
تعاهدوا ثم لم يوفوا بما عهدوا
واسلموا للعدو السبي والسلبا
يا سوءة القوم إذ تسبى نساؤهم
وهم كثيرٌ يرون الخزي والحربا
هذه القصيدة الرائعة حقاً تُعد من عيون الشعر العربي وتستحق الدراسة والوقوف عند احداثها وتأمل مفرداتها، ولولا ان صاحبها كان على غير رأيه لكان لها شأن آخر. أما باقي شعره فكله في مدح امير المؤمنين و ولده وقد تضمن الكثير من الاحاديث النبوية بحق امير المؤمنين من ذلك قوله مضمناً حديث الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله: (علي خير البشر فمن ابي فقد كفر) بقوله:
اشهد بالله وآلآلائه
وآل ياسين وآل الزمر
ان علي بن ابي طالب
بعد رسول الله خير البشر
لو يسمعوا قول نبي الهدى
من حاد عن حب علي كفر
مواجهة الأمويين بحدّ اللسان
كان الطبيعي ان مثل هذا الشاعر الموالي المخلص يكون عرضة لاذى وشتم آل امية ومن والاهم ولكن لسان شاعرنا كسيفه في حده في الرد عليهم:
أيشتمني عمرو ومروان ضلةً
بحكم ابن هندٍ والشقي سعيدُ
وحول ابن هند شانئون كأنهم
اذا ما استفاضوا في الحديث قرودُ
يعضّون من غيظ علي أكفهم
وردّك ما لا تستطيع شديدُ
وفيها يعدد مثالبهم ومخازيهم وجبنهم وفرارهم يوم صفين:
ألم يبتدركم يوم صفين فتيةٌ
شوامخةٌ شمّ المناخر صيدُ
سعيدٌ وقيسٌ والمعمر وابنه
و اشتر فيهم معلمٌ ويزيد
وكنتم كشاة غاب عنها رعاتها
تخاف عليها أذؤبٌ وأسودُ
شارك ابو الطفيل عامر بن واثلة في الجيش الذي ارسله المختار لكسر سجن (عارم) وانقاذ محمد بن الحفنية من اسر ابن الزبير فانتقم مصعب بن الزبير منه بنفي زوجته مع ابنه الصغير يحيى، كما شارك ابو الطفيل هو وابنه مطرف في الثورة على الحجاج وخلفه، و روى ابو مخنف الازدي عن مطرف بن عامر: ان اباه كان اول متكلم يومئذ وكان شاعرا خطيبا.
هذه السيرة المليئة بالبطولات والتضحيات الجسام والحب لآل البيت عليهم السلام دفع ضريبتها الشاعر بدمه، من اجل ولائه المحض لآل البيت عليهم السلام. فهذا ابن حجر يروي عن المدايني قوله: قلت لجرير أ كان المغيرة يكره الرواية عن ابي الطفيل؟ قال: نعم وحين سئل محمد بن يعقوب الاخرم: لم ترك (البخاري) حديث ابي الطفيل قال: لانه كان يفرط في التشيع.
وفي الحقيقة ان شاعرنا لم يكن مفرطا ولا مغاليا ماكرهوه منه، انه روى احاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله دلت على ان الائمة بعده صلى الله عليه وآله من ولد الحسين عليه السلام وآخرهم المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف، منها مارواه الخزار في (كفاية الاثر) ص 97 عن ابي الطفيل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (علي بن أبي طالب قائد البررة وأبو سبطي ومن صلب الحسين تخرج الائمة التسعة ومنهم مهدي هذه الامة). وهناك عدة روايات بسنده مشابهة لها في الكتب وهذا ماجعل عمر بن عبد العزيز يمنعه عطاءه فقال له: لم منعتني عطائي فقال له: بلغني انك صقلت سيفك وشحذت سنانك ونصلت سهمك وعلقت قوسك تنتظر الامام القائم حتى يخرج فاذا خرج وفاك عطاءك فقال: ان الله سائلك عن هذا...! فاستحيا عمر من هذا واعطاه.
وفعلاً... كان أبو الطفيل في حياته يأمل ظهور الامام القائم المنتظر وقيام دولة الحق على يديه الشريفتين بعد ان عاث الفاسدون بالارض وتألبت قريش على حرب آل النبي صلى الله عليه وآله:
ومن عجب الايام والدهر انها
قريش على آل النبي تحرّبُ
قضى الله في الفرقان ان عدوه
وان كان ذا كيدٍ يذل ويُغلب
فلا تحسبوا ان الرخاء لاهله
يدوم ولا ان البلية تُرتبُ
فأن لاهل الحق لابد دولة
على الناس إياها أرجي وارقب
وهذه الابيات تمثل بهاء الامام الصادق عليه السلام. اتفقت المصادر على ان ابا الطفيل كان آخر الصحابة المعمرين ممن رأى النبي ولكنها اختلفت في زمان وفاته ومكانها غير ان الارجح في ذلك انه توفي سنة (110هـ ) ودفن في مكة المكرمة.