قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

بديع الزمان.. ومعجرة همذان
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة منذر الخفاجي
بعد أن دبّ الضعف والوهن في كيان الدولة العباسية، قامت دولة نشرت ألويتها على جميع الممالك والدويلات الاسلامية، ألا وهي (دولة الادب)، فقد جرّ الفساد الاداري والترف والمجون الذي رافق الخلافة العباسية منذ تأسيسها، الى اندلاع الفتن والحروب والانتفاضات، فكان ان انشقت عنها دول عديدة منها الدولة الادريسية على يد العلويين في المغرب، والدولة الصفّارية في فارس ثم السامانية التي أزاحتها عن تخومها واستولت على فارس وما وراء النهر وظهرت الدولة الزيارية في جرجان والحمدانية في حلب والفاطمية في مصر ثم كانت الغزنوية والسبكئينية والخلفية في سجستان ولعل اهم هذه الدول هي البويهية التي حلّت محل الخلافة في بغداد فقد ضمت العراق الى نفوذها فضلاً عن فارس وبسطت سلطانها على قصر الخلافة، ولكن هذا الاخفاق السياسي كان يقابله انتصار في الدين واللغة والادب لم يشهد له التاريخ مثيلاً في تاريخ الامم بفضل القرآن الكريم وآداب الاسلام الحنيف فقد كان ذلك العصر الذي نستطيع ان نسميه (زبدة الحقب الادبية)، هو عصر العلم والأدب والشعر والتأليف والتصنيف، فقد كانت هذه الدول تتنافس في تزيين مجالسها ودواوينها بالعقول والنوابغ والعبقريات من العلماء والادباء والشعراء.
عند الصاحب بن عبّاد
قدم على الصاحب بن عباد أحد ابرز أعلام الأدب والعلم في زمانه، فتىً في الثانية عشرة من عمره من همذان (*) يدعى احمد بن الحسين ويكنى بأبي الفضل كان قد تلقى بعض العلوم في مدينته على يد ابن فارس وكان لواء الكتابة في ذلك الوقت بيد ابن العميد يرفرف على حواضر المدن الاسلامية حتى قيل: (بُدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد) ولكن صاحب هذه المقولة لو أدرك نبوغ هذا الفتى الهمذاني الذي عرف بـ(بديع الزمان ومعجزة همذان) لوضع اسمه مكان اسم ابن العميد، فقد انضوى انشاء ابن العميد داخل اسوار القصور واناقتها، وخبت جذوته بتقوّضها، أما صاحبنا الهمذاني فقد تجاوز سلطان ابداعه الادبي لسان العرب وتغلغل في الفارسية والسريانية والعبرية وحاول الكثير منهم ان يقلّدوه ويكتبوا على غرار آثاره في تلك اللغات كما كتب وبقيت ناره متأججة في مقاماته ورسائله وشعره ومن يقرأ هذه الآثار يحسب انها كتبت بالامس.
ولعل القول الذي يختصر وصفه - والذي يفصّل الثوب على القد كما قيل ماقاله- احد معاصريه فيه: (قريحة وقادة، وبصيرة نفاذة، وذخيرة من الادب فيّضة، الهمت صاحبها بآثار روائع فنسب الى فلتات الزمان وبدائع الدهر).
في 13جمادى الآخرة سنة358هـ كانت همذان على موعد مع ولادة معجزتها فقد رفع هذا الوليد اسمها وذاع بأسمها اكثر من الجبل المشهور الذي عرفت به فغلب اسمه قمته الشامخة، ولو انصف التاريخ لتقصّي اخبار هذا الوليد منذ طفولته فلم يكن لمعلمه الاول ابي الحسين احمد بن فارس أي اثر على تكوينه الابداعي لذا غادر بلده ليبحث عن العلم اينما حلّ، فقد شغف بالعلم وطلبه فهو منه لايشبع فترك ابوالفضل احمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد بن يسر الهمذاني بلدته متوجهاً نحو الصاحب بن عباد الذي وجد فيه ضالته المنشودة وغايته المقصودة فقد كان الصاحب يزجي الصفوف من المبدعين والموهوبين والنابغين ويحضنهم ويرعاهم ويعنى بتعليمهم وصقل مواهبهم، وكان جلّ مايبغي صاحبنا الهمذاني هو الانضواء تحت هذه الرعاية الكريمة فأتيح له من الصاحب ما أراد، فلزم دار كتبه فطبع على غرار تلك المدرسة وتأثر بأساليبها ونهل من مواردها، وكان بدوره قد وهب ذاكرة قوية وحافظة نادرة وذهن فريد لايفلت منه مايعلق به فصار مدار حديث معاصريه وذهولهم ودهشتهم حتى قيل عنه: (انه كان ينشد القصيدة التي لم يسمعها قط وهي اكثر من خمسين بيتاً فيحفظها كلها ويؤديها مناولها الى آخرها لايخرم منها حرفاً وينظر في أربع أو خمس اوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة ثم يمليها عن ظهر قلبه وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطوره ثم هلم جراً الى الاول ويخرجه كأحسن شيء واملحه)
أدب الولاء
استفاد الهمذاني من علوم الصاحب وابن العميد مدة اقامته معهما وتفتّقت مواهبه وبرع في كتاباته ويدلنا هوعلى ذلك بقوله عن نفسه: (قدمت على الصاحب ولي اثنتا عشرة سنة فبينا انا عنده في دار الكتب اذ دخل ابو الحسن الحميري الشاعر وكان شيخاً مبجّلاً فقالوا له:: ان هذا الصبي لشاعر، يعنوني بذلك). ويظهر من شعره تأثره بمدرسة الصاحب خاصة انه ينتمي الى مذهبها كما يتضح من مناظرته مع ابي بكر الخوارزمي بقوله: (ايها السيد، اذا سار غيري في التشيع برجلين طرت بجناحين فان كنت أبلغت غير الواجب فلا يحملنك على ترك الواجب ثم ان لي في آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قصائد قد نظمت حاشيتي البر والبحر... وللاخرة قلتها لا للحاضرة.. الخ). وقد ذكر له صاحب (أمل الآمل) هذه الابيات في مدح ابي جعفر محمد بن موسى بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام:
أنا في اعتقادي للتسنن
رافضيٌ في ولائك
وان انشغلت بهؤلا
ء فلست اغفل عن أولئك
ياعقد منتظم النبوة
بيت مختلف الملائك
يا ابن الفواطم والعواتك
والترائك والارائك
انا حائكٌ ان لم اكن
عبداً لعبدك وابن حائك
وجاء في ترجمته قبل هذه الابيات: (اما في المذهب، فاضل جليل، حافظ أديب منشئ، له المقامات العجيبة وله ديوان شعر وكان عجيب البديهة والحفظ، كان شاعراً وكاتباً ولغوياً) وجاء في مجمع البحرين للشيخ الطريحي في معنى حائك التي ذكرها الهمذاني قوله :(ذكر حائك عند ابي عبد الله الصادق عليه السلام وانه ملعون فقال عليه السلام انما ذلك الذي يحوك الكذب على الله ورسوله)
وجاء مثل هذا القول في ترجمته في تذكرة الخواص لابن الجوزي ومن شعره في مدح امير المؤمنين عليه السلام:
يقولون لي لاتحب الوحي
فقلت الثرى بفم الكاذب
أحب النبي وأهل النبي
واختص آل ابي طالب
فأن كان رفضاً ولاء الوحي
فلايبرح الرفض من جانبي
فلله انتم وبهتانكم
ولله من عجب عاجب
ألاتنظرون لرشد معي
ألاتهتدون الى الله بي
وشعره في اهل البيت كثير يقول عنه الاستاذ محمد شكري المكي :(وله ديوان شعر هو (ديوان الادب)، يحق ان تفخر به العجم على العرب يزري بعقود الجمان وقلائد العقيان) كما ذكر له السيد محسن الامين في اعيان الشيعة (ج8 ص331) قصيدة في رثاء الحسين عليه السلام يقول فيها :
لله درك من خزا
مى روضة عادت ثغامه
لرزية قامت بها
للدين اشراط القيامه
لمضرّجٍ بدم النبوة
ضارب بيد الامامه
نصب ابن هند رأسه
فوق الورى نصب العلامه
ياويح من ولى الكتا
ب قضاة والدنيا امامه
ولنرجع الى شاعرنا وسيرته فقد كان جوّاب آفاق، لايكاد يستقر في مكان حتى يغادره الى غيره وقد تركناه في حضرة الصاحب بن عباد وفيها خالط علماءها وأدباءها فانصرف عنها تام الالواح مكتمل العدة وقصد جرجان ومنها الى نيسابور وفيها كانت له معركة أدبية فاصلة مع شيخ كتاب عصره ابي بكر الخوارزمي خرج منها منتصراً وفيها ايضاً اي نيسابور أملى مقاماته المشهورة التي أربت على الخمسين يقول عنها الشيخ عباس القمي في (الكنى والالقاب): (له المقامات وهو مبدعها ونسج الحريري على منواله وزاد في زخرفتها وطبعت هذه المقامات مكرراً وطبع بعضها مع ترجمتها باللغة الانكليزية في مدارس) كما قال عنها الاستاذ جرجي زيدان في آداب اللغة العربية :(ومقامات تعرف بأسمه وهي اقدم كتاب وصل الينا في هذا الفن عن فنون العربية) واستطاب الهمذاني الاسفار فراح ينتقل من بلدة الى أخرى فجاب خراسان وسجستان وغزنه وكرمان وفيها كان يبث بأدبه من شعر ونثر، مقامات و رسائل وقصائد حتى القى عصا الترحال في هراة وتزوج بها وقرت عينه في ربوعها حتى مات هناك سنة 398هـ عن أربعين عاماً.
*(همذان)، من الاسماء القديمة لمدينة همدان الحالية التي تقع وسط ايران وعلى سفوح جبال (زاغروس).