قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
في ذكرى ولادته العطرة..
الامام الهادي (ع).. شهيد سامراء يكافح التطرف العقائدي
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *إعداد / حسين محمد علي
"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"
كان أئمة الهدى عليهم السلام مصداقاً لهذه الآية الكريمة في سعيهم وعملهم، فقد عملوا بها وعلّموا الناس، وأرشدوهم لما فيه هدايتهم، وما فيه رضى الله ورسوله، وبيّنوا لهم شرف العمل وقيمته من خلال الارتباط بالأرض، والقيام بزراعتها وإصلاحها، كما عملوا بأيديهم في غرس الأشجار. وكانت المزارع التي أنشأها الإمام الكاظم عليه السلام خير مثال على ذلك. فقد أنشأ عدّة مزارع منها مزرعة (صريا) بالقرب من المدينة المنوّرة، وقد تعهّدها بعده الأئمة الأطهار من ولده عليهم السلام، وقد أحب الإمام الجواد هذه المزرعة حبّاً جمّاً، وقضى فيها معظم أوقاته عاملاً ومزارعاً ومرشداً، وخصّص فيها لزوجته الثانية (سمانة) منزلاً أقامت فيه، وتحوّلت (صريا) بفضل جهوده إلى ضيعة يتردّد عليها محبّو الإمام وأنصاره، وفي هذه المزرعة ولد الهادي عليه السلام وأسموه عليّاً، وذلك في الخامس عشر من شهر ذي الحجة الحرام.
أمضى عليّ الهادي طفولته بهدوء إلى جوار أمّه وأبيه، وبين الفلاّحين العاملين في المزرعة، وفي أحضان الطبيعة أطلق بواكير تأمّلاته في عظمة الخالق. لكنّ الأيام الهادئة لم تدم، فقد استقدم والده إلى بغداد بأمر من المعتصم العباسيّ. وغادر المدينة مخلّفاً فيها ولده الهادي وأمّه سمانة، وكانت هذه الرحلة إلى بغداد آخر عهده بأسرته فقد استشهد عليه السلام ودفن في الكاظميّة قرب بغداد، وكان قبل سفره قد أوصى بالإمامة لابنه الهادي عليه السلام، وكان للهادي من العمر ست سنواتٍ.
نفاق الحكام العباسيين
بقي الإمام الهادي في المدينة يمارس مهمّات الإمامة بهدوءٍ لم يخل من رقابة شديدة فرضت عليه من قبل السلطة، حتى جاوز العشرين من عمره، وقد اتّسعت شهرته، وصار القريب والبعيد يرجعون إليه في أمور دينهم، ويستعينون به على ما يعترضهم من مشاكل في أمور دنياهم. لكن هذا لا يروق للبلاط العباسي الذي كان يتخذ من بغداد معقلاً له، لكن في بدايات عهد الإمام الهادي عليه السلام، كان البلاط العباسي يشهد صعوداً ونزولاً على كرسي الزعامة، الامر الذي وفّر على الامام عليه السلام شيئاً من الاستقرار، ما عدا فترة المتوكل المعروف بعدائه لأهل البيت عليهم السلام.
مات المعتصم العباسي الذي كان وراء اغتيال الامام الجواد والد إمامنا الهادي عليهما السلام، وخلفه في الحكم هارون بن محمّد الملقّب بالواثق، وكان الواثق رجل لهو ومجون وطرب، انصرف إليها وترك أمور الحكم يصرّفها وزيره (الزّيّات)، وكان هذا رجلاً قاسياً، فتح السجون لخصوم الواثق، وأنشأ في أحدها فرناً كبيراً جهّزه بمختلف آلات ووسائل التعذيب، وكان من ضحايا هذا السجن أخو الواثق نفسه، ويلقّب بالمتوكّل، وقد لقي المتوكّل الكثير من صنوف التعذيب على يدي وزير أخيه نظراً للخلاف المستحكم بين الأخوين، ولتنافسهما الشديد على الحكم.
لم يطل حكم الواثق، فقد مات بعد حوالي ست سنوات، وخلفه أخوه المتوكّل، الذي افتتح عهده بالانتقام من وزير أخيه، إذ رماه في الفرن الذي أعدّه الوزير نفسه، وكانت نهاية هذا الوزير الجبّار مصداقاً للقول: (من حفر بئراً لأخيه وقع فيها). وبعد أن استقرّ الأمر للمتوكّل، وجّه سهام حقده نحو آل محمد سلام الله عليهم، فقد كان يكنّ لهم كرهاً شديداً، فاق فيه من سبقه من الحكّام، حيث اعلن معارضته الشديدة لزيارة مرقد الامام الحسين عليه السلام في كربلاء، حيث كانت الجموع تتوافد من كل مكان لاحياء هذه الشعيرة الحسينية، وقد بلغ به الحقد أن أمر بهدم قبر سيّد الشهداء عليه السلام، وسوّى الضريح الشريف بالتراب، وأمر بحرث الأرض و غمرها بالمياه، وكل هذه الوسائل لم تنجح في تضييع معالم المرقد الطاهر، فقد شوهد الماء يدور حول منطقة معينة علم الشيعة بعدئذ انه المرقد الطاهر، ولذا سُميت المنطقة المحيطة بالمرقد بـ (الحائر) وما تزال التسمية قائمة.
ولم يكتف المتوكل بذلك بل أوغل في التنكيل والدموية لمنع شعيرة الزيارة التي كان الامام الهادي ومن قبله الأئمة الاطهار يؤكدون على أهميتها لعقيدة الانسان وايمانه، وهكذا بقيت اجراءات قطع الايدي والأرجل وحتى القتل ضريبة للزيارة، محفورة في الذاكرة الشيعية وايضاً في صفحات التاريخ.
هذه الاجواء المشحونة بالولاء المطلق لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، لم تدع المتوكل العباسي يستريح في سامراء التي اتخذها مركزاً لحكمه، دون ان يرسل الى الامام الهادي عليه السلام يدعوه للمجيء الى مركز الحكم العباسي، وهو النهج الذي اتخذه اسلافه؛ المعتصم مع والده الامام الجواد والمأمون مع الامام الرضا وهارون مع الامام الكاظم عليهما السلام. وعليه بعث المتوكل برسالة تحمل عبارات معسولة ينضح منها النفاق والدجل، جاء فيها: (أميرالمؤمنين مشتاق إليك... فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت، شخصت ومن اخترت من أهل بيتك على مهل وطمأنينة، ترحل إذا شئت، وتنزل إذا شئت، كيف شئت، فاستخر الله حتى توافي أميرالمؤمنين، فما أحد من إخوانه و ولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منك منزلةً عنده. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته).
وخلال وجود الإمام في سامرّاء، كان المتوكّل يتظاهر بتعظيمه وإكرامه، لكنّه كان يراقب جميع تحرّكاته وتصرّفاته. وكان أنصار الإمام يتّصلون به في الغالب عن طريق الكتابة والمراسلة. وكان المتوكّل يستدعيه إلى مجلسه بين الحين والآخر. وكان كثيراً ما يأمر رجاله بالإغارة على دار الإمام وتفتيشها، بحثاً عن المال والسلاح، فيقابلهم الإمام عليه السلام بهدوءٍ وثقةٍ، ويساعدهم في التفتيش أحياناً!
ويروى في هذا المقام أن أحد رجال المتوكّل ويدعى «البطحانيّ»، وكان يضمر للإمام عداوةً شديدةً، سعى بالإمام إلى المتوكل قائلاً: إنّ عنده أموالاً وسلاحاً، فأمر المتوكل حاجبه واسمه سعيد بالهجوم على الدار ليلاً، فقصد الحاجب دار الإمام مع رجاله، وصعدوا على سطحها بواسطة سلّم أحضروه معهم، لكنّهم لم يروا طريقهم في الظلام، فنادى الإمام الحاجب قائلاً: يا سعيد، مكانك حتّى يأتوك بشمعةٍ، ثم أتوا له بشمعةٍ فنزل مع رجاله، ووجد الإمام مرتدياً جبّةً وقلنسوةً من صوفٍ، وهو متوجّه إلى القبلة للصلاة. فقال لسعيدٍ: دونك البيوت، (أي الغرف أمامك ففتّشها)، وبعد التّفتيش لم يجدوا ما أتوا في طلبه من مال وسلاح، سوى بعض الكتب، فاعتذر سعيد من الإمام بحجة أنّه مأمور، فأجابه عليه السلام: "وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون"!
تقويم الدين ومكافحة التطرف
انصرف الإمام الهادي عليه السلام إلى خدمة الإسلام الحنيف، عن طريق الدفاع عن أصوله ونشر فروعه، فناظر المشكّكين وتصدّى للمحرفين المنحرفين، بالإجابة عن أسئلتهم بالأسلوب الهادئ الرّصين، المدعوم بالحجّة والمنطق، وكانت الرّسائل تصله من مختلف أنحاء العالم الإسلاميّ، ويتلقّى الأموال الشرعيّة فيصرفها في وجوهها وعلى المصالح الإسلامية العامّة.
ومن مواقفه المشهودة، موقفه من الغلوّ والغلاة والذي اتّسم بالصّلابة والصراحة، وقد شهّر بهم واعتبرهم من المنحرفين عن الخطّ الرّساليّ. الذي دافع عنه الأئمة عليهم السلام بكلّ قوّةٍ.
وذات مرة قال لشخص أفرط في الثّناء عليه ما معناه: إنّ كثرة التّملّق تثير الظنّ والريبة، فإذا أحببت أخاك فلا تتملّقه، بل أحسن إليه عملاً ونيّةً.
ومن أقواله عليه السلام: (من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوقين)، وقال ايصاً: (من كان على بيّنة من ربّه هانت عليه مصائب الدنيا)، وقال عليه السلام: (من جمع لك ودّه ورأيه فاجمع له طاعتك، ومن هانت عليه نفسه فلا تأمن شرّه، ومن رضي عن نفسه كثر السّاخطون عليه). وقال عليه السلام: (المصيبة للصابر واحدة، وللجازع اثنتان). وقال أيضاً: (الجهل والبخل أذمّ الأخلاق، والطمع سجيّة سيئة. والهزء فكاهة السّفهاء وصناعة الجهّال).
وجاء في التاريخ ان أحد ملوك الروم ارسل إلى الحاكم العباسي كتاباً يذكر فيه: (إنا وجدنا في الإنجيل أنه من قرأ سورة خالية من سبعة أحرف حرم الله تعالى جسده على النار وهي الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء، فإنا طلبنا هذه السورة في التوراة فلم نجدها، وطلبناها في الزبور فلم نجدها، فهل تجدونها في كتبكم؟
فجمع الحاكم العلماء فسألهم في ذلك فلم يجيبوا عن ذلك، إلا إمامنا الهادي عليه السلام فقال: إنها سورة الحمد فإنها خالية من هذه السبعة أحرف. فقيل: ما الحكمة في ذلك؟ فقال: إن الثاء من الثبور، والجيم من الجحيم، والخاء من الخيبة، والزاي من الزقوم، والشين من الشقاوة، والظاء من الظلمة، والفاء من الفرقة. فلما بلغ الجواب إلى قيصر الروم فرح بذلك فرحاً شديداً وأسلم لوقته ومات على الإسلام.
الشهادة
في حياة إمامنا الهادي عليه السلام هلك المتوكل على يد ابنه، وخلفه من بعده المنتصر والمستعين بالله والمعتزّ، ويبدو من تاريخ حياته عليه السلام، أنّ السنين السبع التي قضاها في أيّام الحكّام الثلاثة المذكورين، كانت فترةً هادئةً، لم يشهد فيها من الوشايات والمضايقات ما شهده أيّام المتوكل، وقد اكتفى الحكّام الثلاثة بفرض الإقامة الجبريّة عليه في سامرّاء، وفي عهد المعتزّ العباسي أغتيل إمامنا الهادي بالسمّ وبأمر منه بعد ان شعر بالخوف على حكمه وذلك سنة 254 للهجرة. ودفن في بيته بمدينة سامراء.