قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
السبيل نحو المعرفة الربانية - 5
التذكرة مكمّل المعرفة
*صادق الحسيني
بعد مرحلتي النظر والسمع التي يدعونا القرآن الكريم اليها في سبيل استحصال المعرفة الربانية، تأتي التذكرة كعامل مكمل لمراحل المعرفة، و التذكرة هي بلورة المعلومات التي اودعها اللـه في ضمير الانسان بتعبير افضل هي اثارة الفطرة من الغفلة.. وقد استخدم الادب القرآني هذه الكلمة، انطلاقا من الحقيقة التي يشير اليها القرآن المرة بعد الاخرى وهي ان الله قد اودع فطرة الانسان وعقله، اصول العلم ومعدن المعرفة، فلا يحتاج الانسان بالنسبة الى تلك المعلومات الى ما سوى التذكرة بها والتنبيه اليها.
فبدءاً بالتوحيد الذي هو جوهر المعارف و مروراً باسماء الله الحسنى و انتهاءً بالقيم و احكام التشريع إنمّا هي مودعة في عقل الانسان و ليس عليه سوى التذكرة، وحتى الانبياء انمّا كانت مهمتهم الاولى و الاساسية هي التذكرة. يقول ربنا: "قُل لِمَنِ الاَرْضُ وَمن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ" (المؤمنون /84-85).
فخالقية الله تعالى لهذا الكون وأنّ بيده ملكوت السموات و الارض، هذه الحقيقة يعرفها الانسان بادنى تذكرة كونها مسألة فطرية، لذلك حينما حاجّ قوم ابراهيم (ع) نبيهم على الله قال: "أَتُحَآجُّونِّي فِي اللـه وَقَدْ هَدَانِ وَلآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلآَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ" (الانعام /80).
و اساساً الهدف من حياة الانسان فوق هذا الكوكب، هو تذكيره وتنامي وعيه وبلاغ الحجة عليه، ولذلك ترى ان اهل النار حينما يسألون ربهم ان يخرجهم ليعملوا صالحا غير الذي كانوا يعملون، يأتيهم النداء الالهي: انه قد عمّرناكم في هذه الدنيا فترة كافية لان تتذكروا فيها وقد جاءكم النذير. وهكذا تتم الحجة - التذكرة والوقت الكافي للتذاكر، والانذار ثم انتهت الفرصة - وليس امامكم الآن الا ان تذوقوا عذاب النار، يقول الله تعالى: "وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ" (فاطر /37).
وكما حقيقة التوحيد وجملة المعارف الالهية، كذلك اصول الشريعة و القيم المثلى مودعة في فطرة البشر وعقله، تلك القيم المثلى التي تنظم حياة المجتمع الانساني، وانما بالتذكرة تتبلور هذه القيم، وتكون قاعدة لبناء المجتمع الانساني الفاضل.
تحفيز الفطرة
القرآن الكريم يذكرنا بتلك القيم ويهدينا الى ضرورة الارتفاع الى مستوى وعيها والتذكرة بها، لكي يفقه كل انسان ابعاد تلك القيم، ولا يتبعها تقليدا للاخرين، وانما بوعي منه واستيعاب لحقائقها. يقول الله تعالى: "إِنَّ اللـه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (النحل/90). أي ان العدل والاحسان، وكذلك الانفاق على ذي القربى، قيم فاضلة انطوت عليها فطرة كل بشر، كما ان استنكار الفحشاء والبغي من فطرة البشر ايضا. فمن عرف الله بأسمائه الحسنى عرف تلك القيم وانه تعالى يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وألاّ يقرب أحد مال اليتيم إلاّ باللتي هي احسن، وكما يأمر بالقسط في المكيال والميزان، والعدل في القول وغيرها كثير من القيم الالهية.
و من هنا نعي اهمية التذكرة في درك المعارف لأن الحقائق التي اشاراليها القرآن كلها مودعة في فطرة الانسان بدليل أنّ الرب تعالى يختم الآية بهذه الكلمة اذ يقول: "لعلّكم تذكرون" مما له من الدلالة على ذلك.
شروط التذكرة
بالرغم من ان التذكرة ابسط مرحلة من مراحل المعرفة، وانها بمعنى الانتباه واثارة المعارف الكامنة في فطرة البشر، الا أنّ الكثير من الناس يعرضون عن التذكرة، بسبب مواقف سابقة لديهم، ومن ثم ليس كل من ذُكّر يتذكر، انما فقط من اراد ان يتذكر هو الذي يمكن ان يتذكر، إذن، الارادة أهم شرط من شروط التذكرة، قال تعالى: "كَلآَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ" (المدثر /54-55) فلا تتم التذكرة الا لمن اراد.
والمشيئة البشرية هي الاخرى مشروطة بمشيئة الله، فالانسان لا يملك القدرة على المشيئة الا بتوفيق الله تعالى فانما كانت ارادته، وحرية الاختيار عنده بتلك الموهبة الالهية التي يؤتيها الله لمن يشاء، يقول الله تعالى: "إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَمَا تَشَآؤُونَ إِلآَّ أَن يَشَآءَ الله" (الانسان /29-30).
ومن ابرز شروط التذكرة التقوى، وكلما زادت تقوى الانسان انتفع بالذكرى اكثر فأكثر، يقول الله تعالى: "وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ" (الحاقة /48) وايضاً الخشية حيث يقول ربنا: "إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشَى" (طه /1-3). وهكذا لا تكون التذكرة الّا بشروط ينبغي على المؤمن أن يتمثلها ثم يتذكر ويستثير كوامن عقله، ويستخرج معادن فطرته، حتى يتبين له الحق ويزداد يقينا بربه وبأسمائه الحسنى.