قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

مصطفى جواد.. حارس اللغة العربية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *علي ياسين
يفخر العراق بانه مدرسة للعلماء والأدباء والمفكرين الكبار الذين أناروا طريق المعرفة والرشاد للعالم، بعلومهم ومواقفهم ونتاجاتهم الغزيرة، ومن هؤلاء العالم اللغوي الدكتور مصطفى جواد.
ولد الدكتور مصطفى بن جواد في بغداد في محلة (عقد القشلة) بالجانب الشرقي من بغداد وبجوار الجامع المعروف حتى اليوم بـ(جامع المصلوب) عام 1904 وكان أبوه المعروف بـ(أسطة جواد) خياطاً شهيراً في سوق الخياطين ومصطفى هو الإبن الثاني للأسطة جواد بعد و لده البكر كاظم، ويعود أصل أسرة جواد الى (قرة تبّه)، المدينة التركمانية في شمال العراق.
البداية؛ في المجالس الحسينية
كان جد مصطفى شاعراً يكتب الشعر بالتركية أما أبوه فقد كان رجلاً أميّاً ليس له في ميدان الأدب موطئ قدم لكنه احتكر شهرة الجودة بين جميع خياطي بغداد وعلى الأخص خياطة الجبب حتى قال البعض متباهياً: بأنه لا يخيط ملابسه إلا عند أسطة جواد. ورغم أن جذور هذه الأسرة تعود الى أصول تركية إلا أن افرادها لا يتكلمون التركية إلا نادراً رغم أنهم يجيدونها إجادة تامة وهكذا تفتحت طفولة مصطفى جواد على اللغة العربية التي أحبها كثيراً ولم تعجبه الأناشيد التي كان يتلقاها من قبل الأتراك في المدرسة باللغة التركية وعندما احتل الانكليز العراق عام 1917 كان مصطفى في الصف الثالث الابتدائي فانتقل مع أبيه الى (دلتاوة) وهي حالياً مدينة الخالص فدخل كتّاب (المُلة صفية) ليتعلم الأبجدية العربية فبدأ بالقرآن الكريم وبعد أن حذق في حفظ القرآن دخل المدرسة الابتدائية في (دلتاوة) لكنه لم يستفد من المدرسة الابتدائية فائدة كبيرة لأن أعلى صف فيها في ذلك الوقت هو (الرابع) فعول على اجتهاده الذاتي واستفاد من رعاية أخيه كاظم له والذي كان محباً لعلوم العربية ملماً بها كما استفاد من (المجالس الحسينية) التي كان يحضرها وهو يقود والده بعد أن كُف بصره وأكثر ما كان أبوه يرتاد بيت الشيخ جعفر والشيخ باقر وهما من كبار علماء الكاظمية فسمع وهو صبي في هذه المجالس والبيوت التي كان يقود أباه إليها مراثي كبار الشعراء أمثال الكُميت والشريف الرضي ومهيار ودعبل وغيرهم كما استمع الى أشعار كاظم الأزري والسيد حيدر الحلي والعمري والكواز وغيرهم فحفظ الكثير من هذه الاشعار والتي كان لها دور كبير في توجهه الى الأدب وساعدت على بروز مواهبه فضلاً عن رعاية أخيه الأكبر بعد وفاة أبيه وإرشاده وتعليمه فكانت بيئة خصبة تلك التي عاش فيها مصطفى غنية بالشعر والأدب فرسمت أثراً واضحاً في تحديد مساره الثقافي والفكري كما نشأ محافظاً ملتزماً بدينه متمسكاً به.
النبوغ من دار المعلمين
قاسى مصطفى من العسر والفقر وشظف العيش بعد موت أبيه ما يطول ذكره ويؤلم بيانه وكانت الثورة العراقية قد شبت في كل أنحاء العراق فعمل راعياً للغنم عند أحد أقربائه في (دلتاوة) ولما سمع أخوه كاظم بذلك استدعاه وأدخله المدرسة الجعفرية ببغداد كانت ملامح النبوغ وبوادر النباهة تتلمس منه وهو صغير فشجعه أحد أساتذته وهو أحمد زكي الخياط الذي كان معجباً بمصطفى كثيراً لذكائه على دخول دار المعلمين وأقنعه بأنه يمتلك القدرة على النجاح في الامتحان لما يتمتع به من قدرات ذهنية، وصدق حدس الاستاذ فقد قُبل في الامتحان وأظهر تفوقاً فيه في إثناء وجود مصطفى في دار المعلمين والتي أمضى فيها ثلاث سنوات من عام 1921 – 1924 لفت نظر الأستاذ طه الراوي – وكان من أساتذة هذه الدار – القدرة العجيبة التي كان يتمتع بها مصطفى والقابلية المدهشة بالنسبة لسنه في حفظ الشعر والتاريخ، فعني به وشجعه على الاستمرار. كما ساعده في الإطلاع على الكتب التي تزيد من قابلياته فقويت عنده الرغبة في دراسة العربية فكانت حصيلته من دار المعلمين أن تألفت لديه كنوز ثمينة من آداب اللغة العربية كما حبب إليه تتبع التاريخ الإسلامي والتعمق فيه، وأيضاً تاريخ العراق في العصور الاسلامية بصورة خاصة ولعل هذه الدار كانت نواة ثقافته الأولى وتحديد اتجاهاتها كما أنها قد وسعت من أفقه واهتماماته بالعربية وعلومها وبعد تخرجه من دار المعلمين عين معلماً في أكثر من مدرسة ابتدائية.
سافر مصطفى جواد الى باريس لاكمال دراسته لمرحلة الماجستير والدكتوراه في التاريخ، لكن بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939 أوعز فاضل الجمالي وزير الخارجية آنذاك باستعادته الى العراق بعد أن أمضى ثلاث سنوات في باريس يدرس في جامعة (سوربون)، لكنه عاد دون أن يكمل رسالته الجامعية، وبعد عودته الى بغداد عرض شكواه على الشاعر الكبير محمد رضا الشبيبي وهو آنذاك وزير المعارف فوافق على تجديد عقد بعثته لمدة سنتين أخريتين فسافر مرة أخرى وأكمل رسالته الجامعية وكانت بعنوان (سياسة الدولة العباسية في القرن السادس).
وفي عام 1942 دعي لتعليم الملك فيصل الثاني اللغة العربية لكنه فضل العودة الى دار المعلمين، ومن كلية التربية نُدب لتأسيس معهد الدراسات الإسلامية العليا وأنيطت به عمادته. وقد حفلت حياته بعد عودته من فرنسا بجهود علمية جبارة في البحث والتحقيق العلمي وبدأت تحقيقاته العلمية تحل في نفوس الباحثين والعلماء في الأقطار العربية والإسلامية بكل اعجاب فأصبح علماً من أعلام القرن العشرين في اللغة والتاريخ الإسلامي والعربي.
(قل ولا تُقل) في الذاكرة
الى جانب نتاجاته الثقافية الغزيرة، حُظي العلامة الدكتور مصطفى جواد بمكانة في قلوب الناس من خلال برنامجه الاذاعي الذي كانت تبثه اذاعة بغداد وهو تحت عنوان (قُل ولا تقُل)، وهو بالحقيقة كتاب من مجلدين طٌبع في حياته، وكان يبين للمستمعين آنذاك المفردة الصحيحة عن الدخيلة والخاطئة التي كانت دارجة وما تزال على اللسان العربي. هذا البرنامج، بل والمسعى لم يكن عملاً نخبوياً، إنما كان لعامة الناس، فهي بحق خدمة للغة ولمن يحملها في جميع أنحاء العالم، وقد نُقلت عنه قصص طريفة بين الناس وهو بما يمتلك من سعة صدر وطيبة قلب، يسعى بينهم ليبين لهم المفردات العربية الصحيحة من غيرها، وينبههم بعدم تكراراها.
ولم يكن نشاط الدكتور مصطفى جواد متوقفاً على البحث والتحصيل والنشر العلمي والادبي فقد اسهم في النشاط الاجتماعي فانتخب رئيساً لدار المعلمين عام 1941 ثم رئيساً لجمعية المعلمين بالعراق وكان لمصطفى جواد زيارة الى النجف الأشرف فاستقبلته (جمعية منتدى النشر) و (جمعية الرابطة الأدبية) التي كانت تضم كبار شعراء النجف والعراق وكان الدكتور مصطفى في حينها يقدم برنامجه الإذاعي اللغوي (قل ولا تقل) فكانت هناك قصيدة بهذه المناسبة احتفاءً بالدكتور مصطفى منها:
فإذا قيل: (لا تقل) فامتنع عنه وإذا قيل (قل) فقل كيف شاؤوا
حيث إن التعليم من (مصطفى) القول به النظم صحّ والانشاءُ
ترك الدكتور مصطفى جواد مجموعة قيمة من التآليف فضلاً عن التحقيقات والدراسات والبحوث التي نشرها في المجلات العراقية العربية ومن أبرز مؤلفاته: (أمالي مصطفى جواد في فن تحقيق النصوص)، (دراسات في فلسفة النحو الصرف واللغة والرسم)، (قل ولا تقل) بعدة أجزاء، وقد طُبع جزئين في حياته، (الأساس في تاريخ الأدب العربي)، (تاريخ العراق)، (السلك الناظم في دفناء مشهد الكاظم)، وهو إسهام في موسوعة العتبات المقدسة، الجزء الثاني من موسوعة الكاظميين كما أسهم في باقي أجزاء الموسوعة قسم النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وسامراء المقدسة فضلاً عن تحقيقاته الكثيرة لأمهات الكتب التاريخية واللغوية.
الاستشهاد بالقرآن الكريم
اهتم الدكتور مصطفى جواد بالقرآن الكريم كثيراً يقول: (والعربية لغة جسيمة عظيمة قويمة لأمة كريمة عظيمة وقد حافظت على قواها ونظامها وكلامها بقرآنها العزيز وتراثها الأدبي البارع طوال العصور التي انصرمت بين زمن الجاهلية وهذا العصر) لذلك كان كثير الاستشهاد بالآيات القرآنية في بحوثه النحوية واللغوية ودافع عن آرائه بآيات بينات من كتاب الله العزيز ولم يكتف بالقول بضرورة الاستشهاد بالقرآن الكريم والقياس عليه في باب النحو فقط بل اعتمد في ذلك في نقد المعجمات اللغوية وعاب عليها قلة الشواهد القرآنية فكان يقرر بأن: (دراسة القرآن دراسة لغوية ودراسة نحوية عوداً على بدء ففي ذلك نعش للعربية من كبوتها وتقوية وتوسيع لها) كما تابع مسألة الاحتجاج بالحديث الشريف فذهب الى تقييد الحديث بالصحيح فقال: (المروي باللفظ).
توفي الدكتور مصطفى جواد بتاريخ 17-1-1969 وكان لموته أثر كبير وحزن عمّ الأوساط العلمية والأدبية وكانت هناك مجالس تأبينية كثيرة وبرقيات تعازي ومراثي شعرية عديدة، منها ما رثاه الشاعر مصطفى جمال الدين، ومما جاء في القصيدة وهي بعنوان (حارس اللغة):
ضاحٍ على وهج الحروف توقدا هيهات يُطفئ لمحَ عينيه الردى
ومحطمٌ سُدَفَ الخلود بروحه هل كيف يلقاهُ رتاجاً موصدا
يا حارس اللغة التي كادت على صدأ اللهى أن لا يرنّ لها صدى
هبّت عليها الحادثات فلم تدع غصناً بعاصف حقدها متأودا
فأقام محنتها على حيث إلتقى بيديه صحو الأمس يبلغها الغدا