قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

تجليات (الماضي) في مدار نقدي
علي حسين يوسف
إن تجربة الشاعر سواء كانت ذاتية محصنة أو موضوعية متمثلة لا يمكن الحكم عليها إلا من خلال ما تمثله من مضامين، هذه المضامين طبعاً لا تأتي عفواً بل نتيجة للإيمان بقضية ما وبالتالي فإن هذه القضية تفصح لنا عن نفسها من خلال عملية صهر يقوم بها الشاعر لأطرافها. فعملية الخلق الشعري لا يمكن تصورها إلا بوجود طرفين ليس لأحدهما إعتبار إلا باتحاده بالطرف الآخر وأي ميل لأحدهما على حساب الآخر سوف يهدد الكون الشعري بخلل ما.
إن الـ(أنا) أو الـ(نحن) الذي يمثل الطرف الأول في عملية الخلق هذه لا يمكن أن يعطي أو ينتج ما لم يوجد الطرف الآخر الذي يمثل في الـ(هو) أو الموضوع.
وفي قراءة تقييمية لمجموعة الشاعر باسم مزعل الماضي (تجليات) نرى أن الشاعر قد حاول الموازنة بين طرفي تلك المعادلة السابقة واعتقد أن النجاح حليفه لاسيما وأن (باسماً) لا تشوب إيمانه بقضيته شائبة خاصة إذا عرفنا أن حياته العادية تمثل قصيدة صاخبة تصبح في أية لحظة مداراً لقضيته.
ومن خلال رسم خريطة هيكلية للمجموعة نستطيع من خلاله النفاذ الى عالمه الشعري فنلاحظ أولاً أن اللاشعور لديه قد مثل حضوراً فعالاً في قصائد المجموعة فالإيحاءات الحسية الحادة لدلالات الرموز المستخدمة كعناوين لقصائد المجموعة أو في ثناياها ما هي إلا أدوات للحزن العميق الدائم والمشروع والإحساس بالغربة أفرزها اللاوعي بعد أن استثمرها الشاعر في خلق صور شعرية.
إن تعابير مثل (عطش، ذبيح، الموت، القبر، الجثة، الأدعية، الدماء، الجروح، السواد، الحنين، نثرت دمي الشهيد، فوق قبري حنان المحبين) لهي دليل و اضح على ما سبق، كذلك يأتي مفهوم الألم الى حد التهكم دليلاً آخر على ما تقدم فـ (كي نموت على حجر في القفار، كل أبوابنا سارقة، ثم اختار دمعي له آخر الأمر مجرى، وأنت ملامحي المحزنة، إذ تباع القصائد، لا أشتهي شاعراً، أن يكون الصديق، درب أم الهاوية)
تنفّستُ أوجاع القبور وحولها تحلّقت سوراً عالياً من دعائيا
فهذه كلها مصاديق تمثل مفهوم الحزن والغضب كدليل على المعاناة والألم.
ونجد عند الشاعر إحساساً باليأس لكنه سرعان ما يتبدد وبخاصة إذا عرفنا أن اليأس عنده يمثل عتبة عبور الى عوالم حية فمعاناته هي كفاح من أجل الحياة وليس معاناة إستسلام: (قطفوا وردةً من حدائق تسقى بنهر العناد، لا بد من بعثرة القبيلة، يرفع الدمع شأني، لك الآن أن تسرج الروح، لن أجوع، وأصرخ حدّ استحالة حنجرتي نفقاً أخرسا) فالحياة التي ينشدها ليست حياة المتفرجين واللاهين بملذاتها بل هي حياة الذين ينشدون الحرية والعدل والمساواة فحاول أن يخلق من فعل هذه المتطلبات إيحاءات كونية تسعى لأن تستوعب هذا الوجود وبالتالي فإن هذه الإيحاءات تتجاوز عالم الذات الى عالم الموضوع فمنطقة تعامل الشاعر لا تنحصر في الـ (أنا) بل إن هذه عنده ما هي إلا كلمة ثم رمز ثم إيحاء ثم صورة شعرية. وإذا عرفنا أن باسماً كتب قصائد مجموعته عام (2000) يتبين السبب في هذه الرمزية العالية التي استخدمها في التعبير والتي انحصرت تحت سحاب التضبّب بعيداً عن المكاشفة فهذه الـ(أنا) في كل تكويناتها تنشد تلك الوحدة الموضوعية – الموضوع – العالم ولهذا الآخر عند الشاعر موضوع رفض أو سخرية وفي كلا الحالين فإنه مطالب بأن يرفض وأن يغير وأن يصرخ ونداءاته لهذا الآخر لا تقدم بصيغة الخنوع لا بلغة التضامن لكنها يقدمها ثورة أداتها الكلمة وعمادها التشكيل الصوري الصادق في قناع الرمزية يقول: أين توهّج كثيل تحت الرماد، ياأنت يا حلم المنتقى، أم أنني حالماً يصعدون الى قمم الخوف، تطلق كفي الأعنة، السمك الأقزام يحاصر كل شباك الصيد، والشاعر لم يكن ناقلاً أو مستعيراً بل هو انسان ألهمته المعاناة فأحترق شعراً ولكن هل كان باسم الماضي موفقاً في نقل هذه التجربة؟ وهل كان خياله بمستوى تجربته ومعاناته وألمه؟ أعتقد أنه قد وظّف خياله توظيفاً جيداً به ولكنه لم يرتفع به الى مستوى قضيته فكانت صوره أقل مستوى مما يتوقع من خياله أحياناً.
ويحمد للشاعر أيضاً استثماره للمخزون الثقافي عنده ويتضح هذا من خلال توظيفه لمفردات أو آي من القرآن الكريم في نسيجه الشعري: (قبل أن يلج الهم في سم هذا الدخان، إذ تخرج الروح أثقالها) كما هناك الكثير من التأثيرات التراثية والتاريخية التي استثمرها الشاعر بإسلوب تجاوز النصية والجمود في الألفاظ والخيال فجاءت على شكل صورة مشرقة، وثمة معالم وسمات لا يمكن اغفالها فيما يخص اسلوب الشاعر، فالانسانية الواضحة والتدفق الظاهري ومحاولاته لاخفاء الصنعة البلاغية كل ذلك وسّم قصائده بجمالية لا تخفى. أما الوحدة العضوية فقد ركّز الشاعر على مراعاتها بصورة واضحة دفعته الى التضحية في أكثر من موضوع فكأنه آثر الوضوح والبساطة والمباشرة من أجل الوحدة على حساب التجريد المكثف وغزارة الرموز الدلالية أما رموزه فهي وإن كانت منسجمة مع (ماضيه) ومستلة من واقعه في أغلبها فإننا نتمنى منه أن تكون هذه الرموز أشف قليلاً كي تحقق له تواصلاً مستمراً في أعمال أخرى.