قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
الإتجاه الرسالي في تفسير من هدى القرآن الكريم (القسم الثامن والأخير)
ضمانات الانتصار .. بين الأهداف الرسالية والأهداف السياسية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *السيد محمود الموسوي
في القسم الأخير من الدراسة نواصل الحديث عن المسارات في المجال الرسالي في تفسير القرآن الكريم، وكان المحور هو مواجهة الصعوبات والعراقيل في الحياة، فالآيات (41 ـ 43) من سورة (ص)، حول نبي الله أيوب وصبره، يمكن استلهام دروس التحدي ومواجهة المشاكل والصعاب في الحياة، وأن لا ننهزم أمام مشاكل الحياة وضغوطها.
*طرح المشكلة للبحث عن حل
وفي سورة (القصص) يستفيد من طرح النبي موسى لمشكلاته عن فصاحة اللسان وخوفه من تكذيب القوم له، أن طرح المشكلات ليس من أجل التبرير والهروب من المسؤولية، وإنما للبحث عن حلول، ولذلك فإنه (ينبغي للإنسان الرسالي حينما ينبعث إلى مهمة ما، في أي بلد أن يستعرض العقبات والمشاكل بحثا عن الحل لا التبرير)1،
"وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا" (والذي يحمل قضية رسالية حينما يدخل بلداً يسيطر عليه الطاغوت، إذا كان يريد القيام بعمل رسالي معين، يجب أن لا يكون ساذجاً بل حذراً نبها، و يختار الوقت الأنسب الذي يعينه في إخفاء نفسه، وكتمان أمره، وربما كان دخول موسى للمدينة ليلا أو في أول الصبح، وربما كان في مناسبة انشغل بها أزلام النظام عن الوضع، "فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ" بسبب ما قامت به الحركة الرسالية من أعمال سياسية وثقافية، وربما ميدانية في عملية الصراع بينها وبين فرعون حينذاك، استطاعت أن توجد في المجتمع تيارا مناهضا للسلطة، بل وأكثر من ذلك أن ترفع مستوى الصراع بين تيارها والتيار الآخر إلى حد المواجهة المباشرة، ومن أهم مسؤوليات وواجبات الحركة الرسالية حين ترقى بمستوى جماهيرها في الصراع أن تسيطر على الساحة حتى لا يكون للصراع مردود سلبي على خططها وتحركها)2.
*ضمانات رسالية
لقد وعد الله تعالى العاملين الرساليين بعدة ضمانات، برغم التحديات التي تواجههم، وهي بمنزلة حصانة وقوة دافعة من أجل تعزيز الوثوقية من أجل مزيد من العمل، ففي قوله تعالى: "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ" (الزمر / 38)، والآيتان اللتان سبقتاها، يستجلي السيد المرجع المدرسي عدة ضمانات من الله تعالى، هي (كالتالي:
?- كفايته عز وجل للرسول ومن يحمل رسالته من بعده من تخويف الكافرين له.
?- إنه سبحانه يضلل الكافرين ومن يدعون من دونه، ولن يهديهم سواء السبيل.
?- إن الله سوف يهدي الذين آمنوا حين يتمسكون بهداه، ولن يضلهم أعمالهم.
?- إن الله عزيز ذو انتقام، لا يرد بأسه عن الذين كفروا، فسوف يأخذهم أخذ عزيز منتقم.
?- إن الله حين يريد بالمؤمنين خيرا فلن تستطيع أية قوة أن تهزمهم، وإن حمايتهم وحسبهم وكفايتهم على الله، لأن الله أراد ذلك) .3
وفي العديد من المواضع وعبر التدبر في آيات المواجهة بين الطواغيت وأزلامه من جهة، وبين الأنبياء وحواريهم من جهة ثانية، يستظهر السيد المرجع المدرسي العديد من الخطط التي يمارسها الطواغيت في تلك الأزمنة تجاه الحركة الرسالية، وهي مناهج متبعة إلى اليوم يقتفي أثرها الحكام، ويمكن أن نشير إلى عدة منها على سبيل الإلمام لا التنصيص، منها:
1/ استعمال الإرهاب والقوة ضد الحركة الرسالية، لفصل الناس عن الحركة من أجل إضعافها.
2/ استهداف القيادة الرسالية وتصفيتها، لأنها محور الحركة.
3/ خلط القوة الظاهرية الآنية بالحق، وجعلها مقياساً لمعرفة الحق من الباطل4.
*ثلاثة سبل لنصر الحركة الرسالية
في تفسير قوله تعالى: "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (المجادلة / 21)، يذكر السيد المدرسي أن هناك ثلاثة سبل لنصر الحركة الرسالية:
السبيل الأول: القوة الغيبية المباشرة أو عبر الملائكة، كما نصر النبي نوح (ع) بإهلاك قومه، والنبي موسى (ع) بإغراق فرعون وجنده، وكذلك نصر النبي صالح والنبي شعيب (عليهما السلام).
السبيل الثاني: الحجة البالغة التي يسدِّد بها أولياءه، فيقتنع الناس بكلامهم ويعرفون أن رسالات ربهم هي الحق، كما أتم الحجة لنبيه الأكرم (ص) فدخل الناس في دينه أفواجاً.
السبيل الثالث: وهو الذي يهمنا.. نصر الحق بالمؤمنين المتوكلين عليه عز وجل، والراغبين في الشهادة والمعتصمين بحبل الوحدة والقيادة والرسالية، والذين لا يعرفون إلا السعي الحثيث من أجل إعلاء كلمة الحق، وهم حزبه بحق وصدق5.
قد لا تكون السلطة أفضل وسيلة لتحقيق الأهداف الرسالية، "َاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ" (غافر/ 77)، بما أن الرسول ومن يتبع نهجه لا يبحث عن النصر لنفسه، بل لرسالته، فإن النتيجة عنده واحدة سواء انتصرت مبادئه في حياته أو بعد وفاته، لأن الرسول والمؤمنين قد شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، ولا يبحثون عن تشفي نفوسهم بالانتقام من أعدائهم، بل يفوضون أمرهم إلى ربهم، فسواء انتصروا أم توفوا، فإنهم قد أدوا واجبهم. حقا إنه أعلى درجات الإيثار، يؤدب الله بها من اصطفاهم من عباده الأكرمين.
كم هي صعبة وعظيمة في الوقت ذاته، أن يستخلص قلب الداعية من كل رغبة خاصة حتى ولو كانت رغبة الانتقام من أعداء الله؟ ولكن هذا هو المطلوب في حركة أتباع الأنبياء، ولولاه لكانت تزيغ عن الصراط المستقيم، ولانعدم الاطمئنان إليها وإلى حملتها، ولم تقم الحجة على عباد الله حيث إن طلاب المناصب كثيرون، ولو وضع هؤلاء أيضا المنصب نصب أعينهم لاشتبه الأمر على عامة الناس، فلعل هؤلاء أيضا اتخذوا الدين وسيلة للسلطة، كلا.. إن هؤلاء من نمط آخر، فحتى لو سعت إليهم السلطة سعيا ابتعدوا عن لذاتها و بهارجها، فهذا قدوتهم المثلى سيد البشر محمد بن عبد الله وخاتم النبيين (ص) سعت اليه قريش تعرض عليه أجمل نسائهم، وأصفى أموالهم، والملك عليهم، فرفض إلا تبليغ دعوته، ولو خالط حب الدنيا قلب الداعية، لأثر من حيث يدري أو لا يدري على قراراته الاستراتيجية، ذلك أن عمل الإنسان إنما هو تجسيد لنياته.
وإن فريقا من المنتمين إلى الحركات الرسالية يزعمون أنها حركات سياسية ولكن بصبغة إلهية، فإذا زويت عنها المكاسب العاجلة لمصلحة سائر السياسيين اتهموا قادة الحركة بالسذاجة والانطواء، وحين يطول انتظارهم للنصر تراهم يرتابون في القيم فوراً ! وينسحبون عن الساحة، في حين هي حركات دينية أولا، وسياسية ثانيا، ذلك أنهم لا يصوغون استراتيجيتهم وفق المتغيرات السياسية، بل حسب الواجبات الدينية، وأعينهم مسمَّرة على أجر الله ورضوانه قبل أن ترمق ملامح نصره، ولذلك تراهم لا يداهنون أعداءهم، ولا يتنازلون عن قيمهم، ولا يخادعون الناس، ولا يمالئون المترفين على حساب دينهم، ولا يخشون قوة كبرى ولا يظلمون قوة صغرى، فهذا الإمام علي (ع) حين أشار عليه قومه ببعض الحيل السياسية نهرهم قائلاً: (أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه).
والحكمة في ذلك أن الهدف الأول لأنصار الرسالة هو تكريس الحق وإنذار الناس به، وقد لا تكون الجهات الحكومية أفضل وسيلة لذلك، إذ قد يكون أثر حركة معارضة في توجيه الحالة الاجتماعية أشد وأبقى من تأثير تلك الجهات الرسمية، وقد يكون المطلوب إيجاد قوة رسالية ضاغطة باتجاه القيم وفي مواجهة قوة كافرة تضغط باتجاه الضلال، وفي هذا الوقت تكون الحكومة غير مناسبة لإيجاد تلك القوة، وقد يخشى أن يولد الانتصار في غير أوانه فيكون ناقصا، ويجهض سريعا، وبتعبير آخر قد يمنع النصر العاجل المحدد نصرا آجلا أرسخ جذورا وأوسع فروعا. وقد تكون شهادة الرسالي أقوى حجة لسلامة خطه وصحة دعوته من انتصاره، فتكون هي الغاية السامية له..
لذلك نجد الإمام الحسين (ع) اندفع للشهادة قائلاً: (خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف)، ثم ناضل أعداء الرسالة، حتى قدم كل أنصاره وأهل بيته وحتى طفله الرضيع، واحتمل جسده عشرات الجراحات وخرّ على الأرض صريعاً، فقال: (إلهي صبراً على قضائك لا معبود سواك)"6.
*خاتمة
المفردات الثلاث في هيكلية المجال الرسالي، (المنطلقات الرسالية، والغايات الرسالية، والمسارات) ليست هي كل ماجاء في تفسير (من هدى القرآن) من أبعاد في المجال الرسالي، وإنما سقناها كمثال بارز يحمل دلالاته العميقة في التصور المتكامل للرسالية كصفة لازمت التفسير، وقد قدم المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي من خلال منهجيته في المعاصرة والشمولية وفي قراءة النص القرآني، وانعكاس بصائره على الواقع المعاصر، رؤية متكاملة وناضجة في هذا المجال، الذي يلامس حياة الإنسان في أهم أبعادها، ليكون كما أراده الله تعالى مستجيباً للرسالة ومحققاً للقيم العظمى، فاستحق التفسير بجدارة أن يأخذ صفة الرسالية كتفسير رسالي له دلالاته العميقة، وأثره الواسع.
*هامش:
1 /تفسير من هدى القرآن الكريم، ج6 ـ ص343
1 / نفسه، ج 6 ـ ص 322
1 / نفسه ج8 ـ ص169
1 / عرض هذه الأفكار في تفسيره لسورة غافر، الآية 25 و26 ـ ج8، ص 225
1 / من هدى القرآن، ج10 ـ ص350
1 / من هدى القرآن، ج8 ـ ص 272