قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
السبيل نحو المعرفة الربانية - 1
(النظر).. الخطوة الاولى نحو المعرفة
*السيد صادق الحسيني
لا شك ان القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الأوحد المنزّه من الدنس والتحريف ولذلك فهو الكتاب الكامل الذي لم يدع شيئاً إلّا واشار اليه، بيد انّ الله سبحانه لم يبين في القرآن الكريم الا أحكاما قليلة، وركز في بقية آياته على مجموعة قليلة من القيم التي أراد ترسيخها في ذهنية الأمة بشكل كامل، انما فعل ذلك ليفتح أمام الأمة آفاق المعرفة وأبواب التطور.
فالقرآن الكريم يعطي لنا المفاتيح لننطلق منها الى آفاق واسعة من المعرفة فلم ينزل كتاب الله ليعرف لنا هذه القاعدة
الرياضية او تلك النظرية الفيزيائية او تلك الحقيقة البايلوجية، إنمّا يبين لنا المفاتيح لنطلق بها في فضاء المعرفة الوسيع.
وممّا يدعونا اليه القرآن الكريم في طيّات صفحاته المقدسة هو النظر في مظاهر الحياة. حيث إننا - نحن البشر- نمارس النظر اكثر من اي عمل اخر نمارسه تقريبا. فالارادة تقرر والاعصاب تنفذ والعين تبصر، وفي النظر المزيد من الاهتمام ويعد النظر اول خطوات الانسان الساعية نحو المعرفة. وهو بدوره يتشعب الى مراحل، فالاهتمام والتوجه ثم الابصار والتأمل ثم البحث والتدبر، وفي سياق الآيات القرانية التي أوصت بالنظر هنالك ثمة أبعاد النظر من زاوية تقتضيها طبيعة الاشياء الى نظرة يهتم بها الانسان، والى التدبر وانتظار العاقبة، واخيراً الى الحركة والسير من اجل النظر.
واهم ما يستدعي انتباه الانسان، عند تلاوة هذه الايات، الجانب التربوي فيها حيث انها تسعى نحو اسقاط الحجب المانعة من المعرفة عن قلب البشر، ثم اعطاء الثقة لكل بشر، بأن يتعلم من الطبيعة، وما فيها من آيات وآثار بصورة مباشرة. ثم تذكيره بالمنهجية السليمة لوعي الحقائق، وبيان طائفة من الامثلة العملية لكيفية الاستفادة من النظر في الفقه وتوسيع دائرة المعرفة عند الانسان. وفي رفع مستواه العقلي والايماني الى اعلى الدرجات، و نحن اذ نشير بايجاز الى بعض الآيات الكريمة التي تدعونا الى النظر، نحيل القارئ الكريم الى كتاب (التشريع الاسلامي) المجلد السادس، لسماحة المرجع الديني آية الله السيد محمد تقي المدرسي ( دام ظله) ليجد تفصيل ذلك، يقول تعالى: "وَجَنَّاتٍ مِن أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الانعام / 99).
فالانسان يسعى دائماً وابداً من اجل الرزق واول السعي النظر، وقد اودع الله مصادر الرزق روعة وجمالاً وعبقاً يستدعي النظر ويجذب الاهتمام فحين جعل الله الحكيم النبات مصدر الرزق للبشر جعل فيه ايضاً ما يجذبه اليه فهذه الجنات التي فيها من الجمال ما يستقطب اهتمامك ويشدك اليه شدا.
ومن النظر الى ظاهـر نعم الله، النظر الى آثار رحمة الله بعد ان يُحيي الله الارض بالغيث يقول الله تعالى: "فَانظُرْ إِلَى ءَاثَارِ رَحْمَةِ اللـه كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَـمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (الروم /50).
إن النظر الى آثار رحمة الله في الارض... الى العشب الاخضر الذي يفرش أديم الارض في الربيع، والى الزرع الذي ينبت الحب والى الاشجار التي تورق وتثمر، وغيرها كثير، كل ذلك يثير عقل البشر، ويجعله يرى قدرة الله ويوقن بأنه لايعجزه شيء سبحانه.
وعندما يصبح النظر أداة للتفكر والتدبر ويتجاوز ظواهر الحياة الى غيب الحقائق، فانه يصبح مدرسة الايمان ومعراج الانسان الى اليقين، قال الله تعالى: "أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ" ( الغاشية/17-20). ونستلهم من هذه الآية ان النظر الصحيح هو الذي يستهدف معرفة ماوراء الظاهر، من خلال التدبر في الظاهر. فالابل خُلق بحيث يصلح لحمل الاثقال في الفيافي، وقد خلق كل عضو فيه متناسبا مع هذا الهدف، والتعمق فيه يجعلنا نعي العلاقة بين طبيعة خلقته وبين الهدف منها ومن ثم نطل على الحقيقة الارحب وهي اسماء الله التي تتجلى في الخليقة.
ومثل الابل كذلك السماء التي رفعت بحيث كانت سقفا محفوظا، وهكذا الجبال التي ارساها الله تعالى بحيث تحفظ توازن الارض وتكون مخازن للمياه ومعادن لما يحتاجه البشر ومعدن الارض بحيث تلبي حاجات الحياة البشرية.
ان دراسة أسرار وتفاصيل الخلق تستغرق عمر البشرية والى قيام الساعة وكل يوم يكتشفون سراً جديدا. فاذا كانت نظرتهم سليمة ازدادوا يقينا، وقد جاء في الحديث الشريف عن الامام ابي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: الخير كله في ثلاث خصال: في النظر والسكوت والكلام، فكل نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو، وكل سكوت ليس فيه فكرة فهو غفلة، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو لغو، فطوبى لمن كان نظره اعتباراً، وسكوته فكرة، وكلامه ذكرا، وبكى على خطيئته، وأمن الناس شره, فللننظر معاً ايها القارئ الكريم الى مظاهر الحياة لنعتبر منها ولنستلهم منها المعارف.