قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الشيخ جعفر كاشف الغطاء .. كشف العلوم وحماية المجتمع
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *إعداد / علي جواد
أهم وابرز ما كان يميز مراجع الدين في اوساط المجتمع هو التواضع وبسط أجنحة الرعاية والاهتمام الى أبعد نقطة في المجتمع، لذا كانت الكلمة مسموعة والنصيحة مقبولة والدعوة مجابة وايضاً الفتوى ملزمة لجميع فئات وشرائح المجتمع مهما كان الثمن. وهذا تحديداً ما جعل أسماء كبيرة تخلد وتلمع في سماء الحوزة العلمية تتناقلها الاجيال مثل الشيخ الانصاري والسيد ابو الحسن الاصفهاني والميرزا محمد حسن الشيرازي (رضوان الله عليهم جميعاً)، ومن هذا الخط المضيء يأتي الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، مرجع زمانه واحد ابرز أعلام الحوزة العلمية.
انه جعفر بن خضر بن يحيى الجناجيّ الحلّيّ النجفيّ مؤسّس أسرة (آل كاشف الغطاء) والمعروف بـ (جعفرالكبير) و (شيخ المشايخ). كان فقيهاً، أُصوليّاً، متكلّماً، محقّقاً، كاتباً، مرجعاً دينيّاً، أديباً، شاعراً. لُقِّب بهذا اللقب بعد تأليفه كتابه الفقهيّ المشهور (كشف الغطاء).
وُلد بالنّجف الاشرف سنة 1156 هـ الموافق لسنة 1743م.)، قرأ المقدّمات على أبيه، ثمّ اجتاز المرحلة العليا من دراسته في الفقه والأُصول متخرّجاً على يد علماء العراق المشهورين، فأصبح من المجتهدين الذّائع صيتهم، وزاول التدريس. وتتلمذ له عدد كبير من العلماء الّذين صار بعضهم من أعاظم الفقهاء والمحقّقين، وتألّق نجمهم في سماء العلوم الدينيّة بالعراق وإيران.
وكان تبحّرُ المترجَم له ومهارته بارزَين في الفقه والأُصول. وتدلّ كتبه فيهما، لا سيّما كتاب (كشف الغطاء) على براعته وتمكّنه من استنباط الأحكام. علماً أنّه ألّفه في رِحلته إلى ايران ولم يكن معه من المصادر إلاّ كتاب (القواعد) للعلاّمة الحلّيّ.
صارت إليه القيادة الدينيّة لشيعة العراق وإيران وغيرهما من البلدان بعد وفاة السّيّد مهدي بحر العلوم، فزادت شهرته ونفوذه الاجتماعيّ والسّياسيّ حتّى غدا مرجعاً للشّيعة جميعهم في العالم.
يحاسب نفسه
كان (قدس سره) شديد التواضع والخفض واللين، خالياً من التجبّر والكِبَر على المؤمنين، مع ما فيه من الوقار والهيبة والاقتدار. رفيع الهمّة، سمحاً شجاعاً، قوياً في دينه، يرى استيفاء حقوق الله من أموال الخلائق على سبيل الخرق والقهر، ويباشر أيضاً صرف ذلك حال القبض إلى مستحقّيه الحاضرين من أهل الفاقة والفقر. لكن مع كل ذلك لم تتأثر حياته الخاصة بالاموال التي كانت تصل اليه، او المنزلة الاجتماعية والعلمية الرفيعة التي كان عليها. وله حكايات طريفة في محاسن النفس والمواعظ، منها: أنّه كان يحاسب نفسه ليلاً فيقول: (كنت في الصِغر تُسمّى جُعَيْـفراً... ثمّ صرت جَعْـفَراً، ثمّ سُمّيت الشيخ جعفر، ثمّ الشيخ على الإطلاق، فإلى متى تعصي الله ولا تشكر هذه النعمة...)! ونُقل أنّه مرّ في بداية أيّام مشواره الدراسي بقلة ذات اليد، فرأى أن يُؤجر نفسه من بعضهم لإتمام ثلاثين سنة من العبادة، يستغني بأجرتها عن مؤونات زمان التحصيل والدراسة.
وهذه كانت بداية معظم علمائنا الكبار الذين وصلوا الى مراتب عليا من العلم والزهد والتقوى الامر الذي قربهم الى المجتمع سواء الطبقة الفقيرة منه والثرية، فكان المنقذ الملجأ بالنسبة للفقراء كما كان الملهم عند الاثرياء لانهم يرون فيه كما كانوا يرون في غيره مضحياً بوجاهته ومتنكراً لذاته من اجل الاخرين ولخدمة الدين، فلم يتوانوا عن تلبية أي طلب.
ومن أقوال العلماء فيه ما جاء عن السيّد محمّد باقر الخونساري (قدس سره) في كتاب (روضات الجنّات): (كان من أساتذة الفقه والكلام، وجهابذة المعرفة بالأحكام، معروفاً بالنبالة والإحكام، منقّحاً لدروس شرائع الإسلام، مفرّعاً لرؤوس مسائل الحلال والحرام، مروّجاً للمذهب الحقّ الاثني عشري كما هو حقّه، ومفرّجاً عن كلّ ما أشكل في الإدراك البشري، وبيده رتقه وفتقه، مقدّماً عند الخاصّ والعام، معظّماً في عيون الأعاظم والحكّام، غيوراً في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقوراً عند هزاهز الدهر وهجوم أنحاء الغير، مطاعاً عند العرب والعجم في زمانه، مفوّقاً في الدنيا والدين على سائر أمثاله وأقرانه).
وقال الشيخ النوري الطبرسي (قدس سره) في مستدرك الوسائل: (علم الأعلام وسيف الإسلام، مالك أزمّة الفضل بالنظر الدقيق. وهو من آيات الله العجيبة التي تقصر عن دركها العقول، وعن وصفها الألسن، فإن نظرت إلى علمه فكتابه كشف الغطاء يُنبئك عن أمرٍ عظيم، ومقامٍ عليّ في مراتب العلوم الدينية أُصولاً وفروعاً).
تتلمذ الشيخ كاشف الغطاء على يد كبار علماء زمانه منهم الشيخ محمّد باقر الإصفهاني المعروف بالوحيد البهبهاني والسيّد محمّد مهدي بحر العلوم، الذي اصبح المرجع الاعلى للشيعة، و الشيخ محمّد مهدي الفتوني العاملي، وو والده الشيخ خضر، والشيخ محمّد تقي الدورقي. وقد تخرّج على يديه علماء تحولوا فيما بعد الى رموز كبيرة في تاريخ الحوزة العلمية في مقدمتهم الشيخ محمّد حسن النجفي المعروف بصاحب الجواهر، والسيّد صدر الدين محمّد الموسوي العاملي، والشيخ محمّد صالح البرغاني، والسيّد جواد الحسيني العاملي، والشيخ عبد الحسين الأعسم، والشيخ محمّد تقي الرازي، والشيخ أسد الله التستري، والسيّد باقر القزويني، ,الشيخ أحمد النراقي صاحب (جامع السعادات)، وهو السفر الاخلاقي الضخم.
من المواقف الخالدة:
لولا الحضور المكثف والملاصق للاحداث الاجتماعية لما يتمكن عالم الدين من تأدية دوره الرسالي بشكل صحيح وهداية الناس الى الطريق الذي يرتضيه الله ويوافق النهج الذي سار عليه النبي الأكرم واهل بيته عليهم السلام. وللشيخ جعفر كاشف الغطاء ادوار اجتماعية كبيرة، اهمها فضّ النزاع الدامي الذي كان ناشباً بين عشيرتي (الزكرت) و (الشمرت) في مدينة النجف الاشرف، حيث حصدت المواجهات خلال فترة من الزمن اعدادا كبيرة من القتلى والجرحى، فاطفأ نار الفتنة بحكمته وحزمه.
والموقف الاخر عندما فرضت الحكومة العثمانية المسيطرة على العراق آنذاك ضريبة على أهالي النجف الأشرف، وهي أن تدفع ثمانين طنّاً من الطعام، وهي ضريبة عالية وباهظة في ذلك اليوم، فلم يطق أهالي النجف الأشرف ذلك، وكانوا مهددين بالعقوبة القاسية، لكن الشيخ بادر الى توفير هذه الضريبة وابعاد شبح الارهاب عن اهالي النجف الاشرف.
هذا ما كان مع الناس، لكن الشيخ جعفر كاشف الغطاء كان له موقف عظيم مع نفسه، عندما شكك بعلوم علماء آخرين، يروي صاحب (اللمعات) في كتابه: قال أستاذنا الشيخ حسن بن الشيخ جعفر الكبير صاحب كتاب (كشف الغطاء) في مجلس الدرس ذات يوم، ان الشيخ الكبير كان في الليالي ينام قليلاً ثم يستيقظ ويبقى مشغولاً بالمطالعة إلى وقت صلاة الليل، ثم يأخذ بالتضرع والمناجاة إلى طلوع الفجر.
ذات ليلة سمعنا صراخه ونحيبه، وكان كأنه يلطم على رأسه، ركضت أنا وإخوتي فرأيناه وقد تغيّرت حالته وقد بللت دموعه ثيابه، وهو يلطم على رأسه ووجهه، امسكنا بيديه، وسألناه عن السبب قال: صدر مني خطأ، ذلك أني أول الليل كنت أفكر في مسألة فقهية بيّن العلماء الكبار حكمها، وكنت أبحث عن دليل الحكم في أحاديث أهل البيت (ع) فراجعت كتب الأحاديث عدة ساعات، ولم أجد مستندها، وتعبت وقلت بسبب التعب الشديد: جزى الله العلماء خيراً حكموا حكماً بدون دليل ثم نمت! فرأيت في عالم النوم أني ذهبت إلى الحرم المطهر لزيارة أمير المؤمنين (ع)، وعندما وصلت إلى محل نزع الأحذية رأيت في الصُّفة سجاداً، ومنبراً عالياً في صدر المجلس، وشخصاً موقراً ذا وجه جميل ونوراني جالساً على المنبر، وقد أخذ بالتدريس، وكان المكان غاصاً بالعلماء الاعلام، يستمعون إلى الدرس، سألت شخصاً: من هم هؤلاء؟.. ومن هو الجالس على المنبر؟ قال: انه المحقق الحلّي (صاحب الشرائع). وهؤلاء الذين تحت المنبر هم علماء الشيعة. فسررت وقلت في نفسي: حيث أني منهم طبعاً سيحترمونني، وعندما صعدت إلى حيث كانوا سلمت، ولكنهم أجابوا جواب المكره العابس، وأرشدوني إلى مكان للجلوس. فغضبت لذلك، والتفت إلى المحقق وقلت: ألست من فقهاء الشيعة، فلِمَ تتعاملون معي هكذا؟
فقال المحقق بمنتهى الحدة: يا جعفر، بذل علماء الإمامية جهوداً وأنفقوا الكثير حتى جمعوا أخبار الأئمة الأطهار من أطراف المدن من الرواة، وصنفوا كل حديث في محله بأسماء الرواة، وأحوالهم، وتصحيحها، وتوثيقها أو تضعيفها، حتى يأتي أمثالك ويجدوا مستند الأحكام ودليلها. أنت جلست عدة ساعات على السجادة ولاحظت عدداً من الكتب الموجودة لديك ولم تلاحظ بعد كل ما لديك وفوراً اعترضت على العلماء ونسبت إليهم أنهم أفتوا بدون مستند ودليل، في حين أن هذا الرجل الموجود تحت المنبر، أورد هذا الحديث في عدة أماكن من كتابه، وذلك الكتاب موجود بين كتبك ومؤلفه هذا الشخص الذي يسمى الملا محسن الفيض الكاشاني.
أضاف الشيخ جعفر: فارتعدت فرائصي من كلام المحقق، واستيقظت من النوم، وبسبب ذنبي والندم عليه أصبحت على هذه الحالة التي ترون .
شعره
كان(قدس سره) شاعراً أديباً، وله أشعار ومطارحات مشهودة مع أدباء عصره وعلمائه، ومن شعره مادحاً أُستاذه السيّد محمّد مهدي بحر العلوم:
إليك إذا وجّهت مدحي وجدته ** معيباً وإن كان السليم من العيب
إذا المدح لا يحلو إذا كان صادقاً ** ومدحك حاشاه من الكذب والريب
وله في رثاء الشيخ أحمد النحوي ومدح ابنه الشيخ:
مات الكمال بموت أحمد واغتدى ** حيا بأبلج من بنيه زاهر
فأعجب لميّتٍ كيف يحيا ظاهراً ** بين الورى من قبل يوم الآخر
ترك الشيخ كاشف الغطاء جملة من المؤلفات في علوم شتى ابرزها : كشف الغطاء عن خفيات مبهمات الشريعة الغرّاء، كاشف الغطاء عن معايب ميرزا محمّد عدوّ العلماء، الحقّ المبين في تصويب المجتهدين وتخطئة الأخباريين، مشكاة المصابيح في شرح منثورة الدرّة، العقائد الجعفرية في أُصول الدين، غاية المأمول في علم الأُصول، منهج الرشاد لمن أراد السداد، شرح الهداية للطباطبائي، مختصر كشف الغطاء، شرح قواعد العلّامة، مناسك الحج، بُغية الطالب.
تُوفّي الشيخ جعفر كاشف الغطاء (قدس سره) في الثاني والعشرين من رجب 1227? الموافق 1812م بالنجف الأشرف، ودُفن بمقبرته الخاصّة.
ــــــــــــــــــــــــ
1. اُنظر: أعيان الشيعة 4/99.
بقلم : محمد أمين نجف