قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الدمعة الخرساء : رسالة عتاب من السياب الى يزيد!
*علي حسين يوسف
يعدُّ بدر شاكر السياب من اعمدة الشعر العربي الحديث فهو رائد الشعر الحر. ولد في قرية جيكور من محافظة البصرة عام 1926 من أشهر مجاميعه الشعرية : انشودة المطر، أزهار ذابلة ، المعبد الغريق، وترجم نصوصاً من الشعر العالمي في كتابيه: قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث، ومختارات من الادب الحديث. مرض السياب بالسل وتوفي في الكويت عام 1964 ودفن في الزبير.
وقصيدة (رسالة إلى يزيد) أو (الدمعة الخرساء) كتبت فيما يبدو قبل عام 1947 أو في اثنائه لأنها أول مانشرت في ديوانه (اساطير) الصادر من دار البيان ببغداد سنة 1947، لكن الاستاذ ناجي علوش حينما جمع ديوان السياب وصدر عن دار العودة لم يثبت القصيدة في الديوان.(1) والقصيدة من البحر الكامل وفي 43 بيتاً تبدأ بقول السياب:
إرم السماء بنظرة استهزاء
واجعل شرابك من دم الاشلاء
واسحق بظلك كل عرض ناصح
وأبح لنملك أعظم الضعفاء
واملأ سراجك إن تقضى زيته
مما تدرّ نواصب الاثداء
واخلع عليه كما تشاء ذبالةٌ
هدب الرضيع وحلمة العذراء
واسدر بفيّك يايزيد فقد ثوى
عنك الحسين ممزق الاحشاء
تبدأ الابيات السابقة جميعها بأفعال أمر فضلا على وجود فعلين آخرين في عجزي البيت الاول والثاني فلابد إذا من استقراء الدلالة الايحائية لذلك الشيء فمن المعروف ان فعل الامر إن أريد منه صيغة الامر المطلقة فان دلالته الايحائية ستكون من الاعلى إلى الادنى، واذا علمنا إن الخطاب في قصيدة السياب موجه الى غائب وهو (يزيد بن معاوية )، فلا بد أن نعرف بأن الشاعر قد وضع نفسه موضع الرافض ليزيد المتحدي لله، الحانق على فعلته في قتله الحسين عليه السلام، بمعنى آخر أباح لنفسه أن تصدر أفعال الامر منه لإشعار الآخر بذنبه وصغره.
فلغة القصيدة لغة رافضة غير مهزومة اخضعها الشاعر لقوانينه الذاتية المتحدية من خلال كسر المألوف في مخاطبة الغائب (يزيد) بمقدار املاءات من لدن الشاعر وكأنه يقول له: افعل ما تشاء لكن على سبيل التهكم لاظهار بشاعة الموقف ثم يقول السياب:
والليل أظلم والقطيع كما ترى
يرنو إليك بأعين بلهاء
أحنى لسوطك شاحبات ظهوره
شأن الذليل ودبّ في استرخاء
مثلت غدرك فاقشعر لهوله
قلبي وثار وزلزلت أعضائي
في هذه الابيات يكمل السياب المشهد بانتقالة منطقية بواسطة قوله (فقد ثوى الحسين عليه السلام ممزق الاحشاء) ليصف الحالة التي صار اليها الاطفال والنساء. لكن المشهد في هذه الابيات يومي بما كان الواقع عليه فعلا فلا يمكن أن نعد قول الشاعر (الليل اظلم وإذا اشتكى فمن المغيث، إقشعر لهوله) مبالغات شعرية، فان واقع المأساة كان أكثر قتامة من ذلك، فالخطاب هنا لايمكن موضعته في غرض تقليدي، ففيه من كل الاغراض علائق قد تطفح على النص بين الحينة والاخرى لكن الهوية الجامعة لكل ذلك هو هذه الذاتية الكلية التي تمنع النص أن ينضوي تحت لافتة معينة وهذا ملمح من ملامح حداثة النص السيّابي
فالسياب بدلالة أفعال الامر في الابيات المطلعية ثم بدلالة النتيجة المترتبة عليها في الابيات التي تليها صور باختصار متلازمة منطقية يمكن أن نرسمها بالشكل الاتي:
فاعل (شرير) ــــــ عمل لا إنساني ـــــــ مأساة
ومن خلال هذه المتلازمة يمكن أن نفسر التفاعل بين النص والمتلقي على فرض أن الطرف الاول (الفاعل الشرير) لم ينقطع بموت يزيد فالشر موجود مع وجود البشر مما يؤدي الى استمرار تمثلات الشر المتجسدة في الاعمال الشريرة التي تواجهها البشرية في كل آن، مما يؤول حتما الى حصول مآسٍ في كل عصر ، وبدون هذا التوجيه للنص لايمكن معايشة شعريته الكامنة (فإن النص لايوجد الا بوجود فعل بناء يقوم به وعي يتلقاه ولا يتخذ العمل الادبي طابعه الخاص ومساره الا من خلال عملية قراءته ولاينبغي اطلاقا من ذلك أن نتحدث عن العمل الادبي الا عندما يكون هناك ـ ومن داخل النص ـ مسار بناء يقوم به القارئ ويكون العمل الادبي بذلك بناء النص في وعي القارئ). 2
ولاجل ترسيخ الصورة يواصل السياب فيقول :
واستقطرت عيني الدموع ورنقت
فيها بقايا دمعة خرساء
يطفو ويرسب في خيالي دونها
ظل أدق من الجناح الثاني
حيران في قعر الجحيم معلقٌ
مابين ألسنة اللظى الحمراء
أبصرت ظلك يا يزيد يرجّه
موج اللهيب وعاصف الانواء
رأس تكلل بالخنا واعتاض عن
ذاك النضار بحية رقطاء
ويدان موثقتان بالسوط الذي
قد كان يعبث أمس بالاحياء
قم واسمع اسمك وهو يغدو سبّة
وانظر لمجدك وهو محض هباء
وانظر الى الاجيال يأخذ مقبل
عن ذاهب ذكرى أبي الشهداء
عصفت بي الذكرى فالقت ظلها
في ناظري كواكب الصحراء
تلك ابنة الزهراء ولهى راعها
ذعرا وتلوي الجيد من اعياء
عن ذلك السهل الملبد يرتمي
في الافق مثل الغيمة السوداء
يكتظ بالاشباح ظمأى حشرجت
ثم اشرأبت في انتظار الماء
مفغورة الافواه الا جثة
من غير رأس لطخت بدماء
في هذه الابيات يمكن ان نميز ثلاثة محاور: أنا الشاعر، صورة يزيد، أهل الحسين.
المحور الاول : المتمثل في (أنا الشاعر) حاول السياب من خلاله اسقاط ذاتياته على المحورين الآخرين لكن باتجاهين متعاكسين: الغضب والشفقة، ولم يغلب الشاعر احدهما على الاخر وهنا لابد من تدخل القارئ لمعرفة السبب الذي قد يكون في تعادل كفتي العاطفتين إزاء موضوعهما، فالشاعر يعتريه من الغضب على يزيد بقدر ما يملأ قلبه أسى على اطفال ونساء الحسين العطاشى في ذلك الوادي المخيف، لذلك فإن المأساة تدفعه الى البكاء (واستقطرت عيني الدموع) مثلما يدفعه الحنق على يزيد أن يتمثل صورته وهو (حيران في قعر الجحيم معلق مابين السنة اللظى الحمراء)، ثم يعود وبصيغة الآمر ليخاطب يزيد ويؤنبه على مافعل وما كان عاقبة فعله: (قم واسمع.. وانظر لمجدك .. وانظر الى الاجيال) ليتخلص الى معاناته ـ بوصفه إنساناً ـ وقد عصفت به الذكرى ـ ذكرى الفاجعة ـ حتى كأنه ينظر بعينه الى السيدة زينب عليها السلام وهي تتلوى حسرة على ماجرى لأخيها وهنا ينتقل الشاعر الى المحور الثالث الذي جسد المعاناة على ارض الواقع فقد حاول الشاعر ابراز فعل الجريمة من خلال تصويره المأساة (من للضعاف إذا استغاثوا ... بابي عطاشى لاغبين و رضعاً صفر الشفاه خمائص الاحشاء).
ثم يقول السياب :
عزّ الحسين وجلّ عن أن يشتري
ري الغليل بخطة نكراء
ألّا يموت ولا يوالي مارقاً
جم الخطايا طائش الاهواء
فليصرعوه كما أرادوا إنما
ماذنب اطفال وذنب نساء
عاجت بي الذكرى عليها ساعة
مر الزمان بها على استحياء
إلى أن يقول:
ذكرى الّمت فاقشعر لهولها
قلبي وثار وزلزلت اعضائي
موضوع هذه الابيات؛ الامام الحسين عليه السلام بوصفه بطل المأساة ولإعطاء الصورة طابعا حركيا حاول الشاعر المزاوجة بين (التحدي والمأساة) وليخرج بنتيجة تجعل المتلقي يستثمر عمق المعاناة وفي الوقت ذاته تخلق فيه موقفا قد يوازي ذلك الموقف الذي كان حافزا لابداع الشاعر قصيدته.
ـــــــــــــــــ
المصادر :
1-اعتمد الكاتب في إيراد النص على ديوان : أزهار ذابلة وقصائد مجهولة ـ بدر شاكر السياب ، تحقيق حسن توفيق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، ط2 1985
2-عملية القراءة ابراز : 198 نقلا عن مبادئ تحليل النصوص الادبية ، د. بسام بركة و د. ماثيو قويدر و د. قاشم الايوبي الشركة المصرية العالمية للنشر ـ لونجان ـ مصر، ط2:2..2
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ