قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

ابن الخِلفة. .. الشاعر الملهم
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *منذر الخفاجي
كان أبوه يتوقع له مستقبلا باهراً في فن البناء وهو يرى مهارته وموهبته في هذا الفن تشبُّ معه منذ صغره فكان يعده لان يحل محله في حرفته التي اشتهر بها حتى طغت على اسمه فعرف بـ (الخِلفة) وهي كلمة عامية تطلق على من يدير شؤون العمل في البناء، وكان الابن يتلقف من ابيه ما يعلمه إياه ويقلده في صناعته ببراعة وذكاء تُشعر الاب بارتياح نحو مستقبل ابنه الوحيد فاصطحبه معه من بغداد الى الحلة وهو يحلم بالنجاح الباهر الذي سيحققه ابنه الموهوب في هذه المدينة، لكن (الخِلفة) لم يدر ان ابنه ستسرقه اضواء الادب والشعر من حرفته في الحلة وانه لن يبني فيها دوراً وبيوتاً بل سيصوغ فيها أبياتاً وقصائد، وانه لن يضع لمساته في فن البناء بل سينقش اسمه في سماء الادب الخالدة فقد كان ذهنه المتوقد و روحه المتوثبة أميل فطريا، وتلقفه اسرع نفسيا للأدب حتى ذاع صيته ونافس كبار شعراء عصره، وهو مع ذلك لم يحضر دروسا على يد استاذ ولم يتعلم من معلم سوى ماكان يسمعه من محاضرات ومساجلات كانت تدور في النوادي الادبية في الحلة، ولم تقتصر موهبته على الشعر، فقد برع في فن (البند) حتى حاز به على مركز الصدارة في عصره.
هو الشيخ محمد بن اسماعيل البغدادي الشهير بـ (ابن الخلفة) الشاعر الكبير والناثر الملهم ولد ببغداد وتوطن الحلة اتصل بأعلام الادب الكبار امثال احمد النحوي ومحمد رضا النحوي والشيخ شريف بن فلاح، فكان له معهم مساجلات في دار السيد سليمان الكبير و اولاده فعرف من بينهم كعضو له قيمته ومكانته البارزة رغم انه لم يقرأ كتابا ولم يطلع على قواعد اعرابية من نحو وصرف، بل كان يستمد كل ذلك من ذوق خاص به.
قال عنه الشيخ علي كاشف الغطاء في كتابه (الحصون المنيعة في شعراء الشيعة) ج 9 ص 335: "كان أديباً شاعراً يعرب الكلام على السليقة ولم يحصل على العربية ليعرف المجاز من الحقيقة وكان يتحرف بالبناء على انه ذو اعراب ويطارح الشعراء في غير كتاب وله شعر في الائمة الاطهار وفي مدح العلماء والاشراف وكانت له اليد الطولى في فن البند توفي في اول الطاعون الكبير عام (1247هـ) في الحلة ونقل الى النجف الاشرف فدفن فيها".
عرف شاعرنا بنفسه الطويل من غير ان يخل بجودة القصيدة، وقد اربت قصائده على المئة بيت. ومن شعره قصيدته النونية في مدح امير المؤمنين عليه السلام والتي يقول في مطلعها:
أمرنّه سجعت على الاغصان
فترنحت مرحاً غصون البانِ
في روضة غنّاء في أفنانها
غنى الهزار بأطرب الالحانِ
ويقول فيها:
قرن الاله ولاءه بنبوة الهادي النبي المصطفى العدناني
هو خير خلق الله بعد نبيه
من ذا يقارب فضله ويداني
يكفيه مدح الله جاء منزلاً
ومفصلاً في محكم القرآن
سَل سورة الاحزاب لما فرق الاحزاب حين تراءت الجمعان
ولعمرها لما علي قده
بمهند صافي الحديد يماني
جبريل اعلن في السماوات العلى
طوعا لأمر مكوّن الاكوان
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى
إلا علي فارس الفرسان
اما (حسينياته) فهي كثيرة ومطولة يقول في احداها:
يا يوم عاشوراء كم لك في الحشا
نار متى أخمدتها تتسعرُ
لا حرها يُطفى وليس مدى المدى
تنسى فلا جاءت بمثلك أشهرُ
أيبيت مولاي الحسين بكربلا
صادٍ ودمعي بالمحاجر يحجرُ
عجباً له يرد المنية ظامئاً
وله الشفاعة في غدٍ والكوثر
عجباً لسيف الحق ينبو حدّه
بغياً وكسر الدين فيه يجبر
عجباً لآل محمد بيد العدى
تسبى وعين الله فيهم تنظر
شاهد على المجزرة الوهابية في كربلاء
وقد عاصر شاعرنا الهجوم البربري المتوحش من قبل الوهابيين على مدينة كربلاء المقدسة وانتهاكهم حرمتها فقال يصف تلك الاعمال الاجرامية والفظائع التي ارتكبوها من قتل ونهب وسلب وانتهاك للحرمات:
فيا كربلا كم فيك كرٌ من البلا
فما انت إلا للحوادث مهيعُ
وما انت إلا بقعة جاد رسمها
غمائم غم بالنوائب تهمعُ
فكم في رباك روعت لابن فاطمٍ
حصانٌ وبالصمصام جُدّل اورعُ
وكم فيكِ اكبادٌ تلظّت من الظما
وكأس المنايا من حشا السيف تكرعُ
.....
وفي منتهى ألفٍ وميتين حجة
وسبع تليها خمسة ثم اربعُ
بكِ الدهر أيم الله جدد وقعه
أجلّ من الاولى وادهى وأفظعُ
لئن قتلت في تلك سبعون نسمة
فستة آلاف بذي الموت جُرّعوا
ويصف المأساة التي حلت بأهالي كربلاء فيقول:
ينادون بالاعلان يا أهل كربلا
اتيناكم عودوا عن الشرك وارجعوا
فكم في نداهم سب لله حرمة
وكم في مداهم جُزّ للآل منزعُ
فظلوا دماءً واستحلوا حرائراً
وغودر مال الله فيهم يوزعُ
فذي ثاكلٍ خمصاء بطن من الطوى
ومن شلو هاتيك الجوارح شبّعُ
واخرى تنادي لم يجبها سوى الصدى
كما رنّ فوق الايك ورق مرجّعُ
وقال يصف تهديم الوهابيين الضريح الطاهر للامام الحسين عليه السلام وتحطيم الشباك ونهب النفائس والخزائن منه وقتل كل من فيه:
وفي حضرة القدس التي جلّ قدرها
بها الملأ الاعلى سجودٌ و ركعُ
تذبح خدام لها في عراصها
ويأمن فيها الخائف المتروعُ
فيا غيرة الله استفزي بما لقت
ثمود من التدمير منك وتبّعُ
أتهدم للنور الالهي قبةٌ
على الفلك الدوّار تسمو و ترفعُ
ويقلع باب الله عن مستقره
وعن كل داع لايرد و يردعُ
وتهتك حجب الله عن اوجه التقى
عتاة بغير الشرك لاتثبرقع
وتنهب من بغي خزائن من له
من العبد خزان النعيمة اطوعُ
ويحطم شباك النبوة بالظبا
جذاذاً و صندوق الامامة يقلعُ
وهي قصيدة طويلة جدا فيها وصف دقيق لما جرى في تلك الحادثة ويقول في خاتمتها يستنهض الامام المهدي عجل الله فرجه الشريف:
متى يا امام العصر تقدم ثائراً
تقوم بأمر الله بالحق تصدعُ
وتردي بمسنون الغرار عصائباً
مدى الدهر قد سنوا الضلال وابدعوا
وتنظر اشياعاً عفاة جسومها
لفرط الاسى والقلب منها مشيعُ
وفي كربلا عرج يريك مؤرخاً
ألو فك يا لله بالترب صرّعوا
ولشاعرنا في رثاء الامام الحسين واخيه العباس عليهما السلام مطولات دلت على نفسه الطويل والمامه باللغة.
(المقامات) في مدح الامامين الجوادين (ع)
اما في فن (البند) أو المقامة، فقد برع فيه وتنوع في فنونه حتى عُدّ من ابرز مرتاديه. ولبراعته في هذا الفن، اختار السيد مهدي السيد داود شيخ شعراء عصره، احدى مقاماته وارسلها الى الشاعر السيد راضي القزويني البغدادي كما اثبتها السيد مهدي في كتابه (مصباح الادب الزاهر)، ونقلها عنه ابن اخيه السيد حيدر الحلي ودونها في كتابه (العقد المفصل) ج1 ص/ 107، وهذا البند أو المقامة التي اختارها ارباب الشعر والادب في ذلك الوقت قالها شاعرنا في مديح للامامين الهمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد عليهما السلام، يقول فيها: (مثل اعلاني بمدحي للامامين الهمامين التقيين، الوفيين الصفيين، من اختارهما الله على الخلق، وسنا منهج الحق ومن شأنهما الصدق بل الرفق، هما السر الحقيقي، هما المعنى الدقيقي، هما شمس فخار خلقا في ذروة المجد، هما عيبة علم ما له حد، فاسماؤهما قد كتبا في جبهة العرش بلا ريب، هما قد طهرا بالذكر من رجس ومن عيب، هما قد احرزا يوم رهان وسط مضمار المعالي قصب السبق، حكى جودهما الودق، اذا جادا على الروضة تحدوه النعامى، رفع الله على هام الثريا لهما قدرا وفخرا ومقاما، ليت شعري هل يضاهي فضل موسى كاظم الغيظ، بعلم او بحلم أو بجود او بمجد ونداه قد حكى البحر طمى في لجة الغيض، هو العالم والحاكم والفاصل والفاضل والقائم والقاعد والراكع والساجد والضارع خدّاً خشية الله، فمن اوضح للدين الحنيفي لدى العالم إلاه يرى البشر لدى الحشر، إمامٌ طافت الاملاك في مرقده اذ هو كالحج، وللتقوى هو النهج، وللجدوى هو الموج، في طلعته البدر اذا تمّ، ومن راحته اليمّ، كذا المولى الجواد البطل الليث الكميّ اللوذعي الزاهد الشخص السماوي ومشكاة سنا النور الالهي، عماد الدين موفي الدين، وهاب الجياد القب الجرد لدى الوفد ببذل زائد الحد، فتى جل عن الند شذاه، وعلى البدر سخاه، فهما عقد ولائي ومنائي وغنائي وسنائي بهما يكشف كربي وبدنياي هما عزي وفخري، بل وذخري حين لايقبل عذري بهما صدق اعتقادي بودادي... الخ) ولشاعرنا مجموعة كبيرة من البنود متنوعة الاغراض قالها في تعظيم الله تعالى والثناء على الرسول ومدح العترة الطاهرة وقد نقل بعضا منها السيد الامين في كتابه (معادن الجواهر) (ج3).