قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
في ذكرى استشهاده..
الإمام الجواد(ع) .. الولاية في مرحلة الشباب
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *يونس الموسوي
سخر إبن تيمية من بيعة الشيعة للإمام الجواد عليه السلام إماماً تاسعاً بعد استشهاد أبيه الامام الرضا عليه السلام، وهو إبن عشرة أعوام مثلما سخر الذين قالوا لمريم عليها السلام: "قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ..." الغرابة ليس في تكلمه وهو في المهد صبيا، إنما في أنه اختير للنبوة وهو في هذا العمر، "قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا" (مريم /30)، كيف يكون نبياً وهو مازال في المهد صبياً؟ وكيف يؤدي الواجبات وهو بعد لم يبلغ الحلم؟ "وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا" (مريم /31).
ولو كان إبن تيمية قد ولد في عهد عيسى عليه السلام لكان أول كافر به، لأنه لايؤمن بنبوة أو إمامة طفل؟ وهنا أريد أن أسأل وأقول هل كانت إمامة الجواد عليه السلام وهو في العاشرة من العمر أكثر غرابة؟ أم حديث عيسى عليه السلام في المهد أم نزول الملك عليه؟ "إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ الناسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهلاً" (المائدة ،110). ولم يكن إبن تيمية وحده الذي سخر من الإمامية لأنهم بايعوا طفلاً إماماً عليهم، بل كان أحدهم في عصر الإمام الجواد عليه السلام - وكان زيدي المذهب- سندعه ليتحدث عما جرى له مع الإمام الجواد عليه السلام فيقول:
خرجت إلى بغداد فبينما أنا بها، إذ رأيت الناس يتدافعون ويتشرفون ويقفون فقلت من هذا؟
فقالوا: إبن الرضا عليه السلام.
فقلت والله لأنظرن إليه، فطلع على بغل أو بغلة، فقلت لعن الله أصحاب الإمامة حيث يقولون أن الله افترض طاعة هذا! فعدل إليّ وقال: يا قاسم بن عبدالرحمن: "فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ" (القمر ،24).
فقلت في نفسي: (ساحر والله)!
فعمد إليَّ فقال: "أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ". (القمر ،25)
قال: فانصرفت وقلت بالإمامة وشهدت أنه حجة الله على خلقه واعتقدت به.) (بحارالانوار،ج50، ص64).
"وآتيناه الحكم صبيّا"
شاءت الحكمة الإلهية ان يتولى الامام الجواد الإمامة صبياً، فقد جاء في (البحار) ان إمامنا عليه السلام تولى الإمامة بعد ابيه ا لرضا عليه السلام وهو ابن سبع سنين وأربعة اشهر ويومين. و لعل هذا من مواطن الاختبار للشيعة والمؤمنين بأن يزدادوا معرفة و وعياً بأئمتهم ويبحثوا في سيرة حياتهم، وجاء في الحديث عن الامام الرضا عليه السلام إن الصبيان قالوا ليحيى ابن زكريا اذهب بنا لنلعب، قال: ما للعلب خلقنا... فأنزل الله تعالى: "يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا" (مريم /12)، ونظير هذا الموقف جرى لإمامنا الجواد عليه السلام عندما جاءه الرجل يحمل معه شيئاً مما يلعب به الاطفال، يقول الرجل: لما جئته و وقفت امامه مسلماً لم يأذن لي بالجلوس، فرميت بما كان عندي بين يديه، فغضب وقال: ما لهذا خلقني الله، وما أنا واللعب.
وبالرغم من البراهين والدلائل على خطأ حصر الولاية الالهية في مسألة العمر، مع وجود نص الآية الكريمة حول نبوة عيسى عليه السلام وهو في المهد، إلا ان شيعة ذلك الزمان لم يبلغوا باجمعهم تلك المنزلة التي تمكنهم من استيعاب القضية، علماً ان الامام الرضا عليه السلام طالما بيّن لشيعته هوية إمامهم من بعده وكان إمامنا ابن ثلاث سنين، لكن تبقى مشكلتنا وحتى اليوم هي القناعات التي لاتصدر من المبادئ الحقّة إنما من الاهواء والامزجة والمصالح الشخصية، فقد ظهرت في تلك الفترة طائفة أنكرت إمامة الرضا عليه السلام وسُميت بالواقفة طمعاً بأموال المسلمين التي كانت بحوزة بعض انصاف العلماء و والوكلاء في عهد الامام الكاظم فادعوا كذباً واشهدوا زوراً انه عليه السلام لم يمت!!
وجاء في التاريخ ان وجوه الشيعة اجتمعوا بعد استشهاد الامام الرضا، وهم الريان ابن الصلت وصفوان بن يحيى ومحمد بن حكيم وعبد الرحمن بن الحجاج ويونس بن عبد الرحمن في دار عبد الرحمن بن الحجاج، وقد عقدوا مجلس العزاء على مصاب الامام الرضا ثم قالوا من لهذا الأمر؟ – أي الإمامة- والى من نقصد بالمسائل حتى يكبر هذا... ويقصدون إمامنا الجواد!! فقام اليه الريان بن الصلت ووضع يده في حلقه ولم يزل يلطمه ويقول له: انت تظهر الايمان لنا، وتبطن الشكّ والشرك! ان كان أمره من الله عزّوجل فلو انه كان ابن يوم واحد لكان منزلة الشيخ العالم وفوقه، وان لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو واحد من عامة الناس، هذا مما يجب أن يُفكر فيه... فأقبلت الجماعة عليه تعذله وتوبخه!
وعندما حان موسم الحج اجتمع من فقهاء بغداد والامصار الاسلامية وعلمائهم وكانوا حوالي ثمانين رجلاً وقصدوا دار الامام الصادق في المدينة المنورة، ليشاهدوا إمامنا الجواد عليه السلام، فخرج اليهم عبد الله بن موسى وقام منادٍ يقول: هذا ابن رسول الله فمن ارد السؤال ليسأله... فسُئل عن اشياء واجاب عنها بغير الواجب مما حيّر وجوه الشيعة وغمّهم واضطرب الفقهاء وهمّوا بالانصراف، وقالوا : لو كان ابو جعفر يصلح لجواب المسائل لما كان من عبد الله ما كان، وبينا همّ كذلك إذ فتح عليهم باب من صدر المجلس ودخل رجل يقول: هذا أبو جعفر عليه السلام، فقاموا اليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه فدخل عليه السلام وجلس ، فأمسك الحاضرون، ثم توجه صاحب المسألة بالسؤال: فاجاب عنها بالحق، ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له: ان عمّك عبد الله أفتى بكذا... وكذا... فقال إمامنا عليه السلام: (لا اله الا الله ، ياعمّ...! انه عظيم عند الله ان تقف غداً بين يديه فيقول لك: لم تفتي عبادي بما لم تعلم؟! وفي الأمة من هو أعلم منك.
المأمون يكرر الخطأ
كان المأمون العباسي يظهر للناس حبّه وميله للأئمة عليهم السلام، لكنه كان في السر يستبطن ايمانه بالقدرية، فهو يقرب الامام الرضا عليه السلام ويعينه ولياً للعهد، ثم يدس اليه السمّ زاعماً ذلك، انه من التقدير الالهي، وانه لابد من ذلك! ولذا نجده مصراً على التقرب من الأئمة عليهم السلام في مواجهة الرفض العباسي، فلمّا عزم المأمون تزويج إبنته أم الفضل للإمام الجواد عليه السلام أعترض عليه العباسيون خوفاً من إنتقال الخلافة إلى أهل بيت رسول الله ، فاجتمع من أهل بيته وقالوا له: نناشدك الله يا أميرالمؤمنين أن لا تقدم على هذا الأمر الذي عزمت من تزويج إبن الرضا عليه السلام، فإننا نخاف أن يخرج به عنّا أمر قد ملكنا الله عزّوجل، وينزع منا عزاً قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وقد كنّا في خشية من عملك مع الرضا عليه السلام فكفانا الله المهم في ذلك، فالله أن تردنا إلى غمّ قد انحسر عنا!
فقال لهم المأمون: أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم، وأما ما كان يفعله من قبلي بهم فقد كان قاطعاً للرحم، وأعوذ بالله من ذلك، والله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا عليه السلام.. ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى وكان أمرالله قدراً مقدوراً!! وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتفوقه على أهل الفضل كافة في العلم والثقافة مع صغر سنه، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فتعلمون أن الرأي ما رأيت فيه.
وانتهى النقاش بين المأمون واعيان الأسرة العباسية بأن يختبروا إمامنا الجواد في علمه وفقهه فان كان بالمنزلة والقدر الكبير، وافقوا على مشروع الزواج، فحصل ما حصل بين امامنا وقاضي قضاة الديار الاسلامية يحيى بن أكثم، عندما سأله عن محرم قتل صيداً، وبدلاً من يصاب بالحرج كما كان يتصور بن أكثم، بادره إمامنا بالسؤال: قتله في حل أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مُصّراً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم في النهار؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله، أم بالحج كان محرماً؟ فاسقط في يد قاضي القضاة.
وفي هذا المجلس استغل المأمون الفرصة ليطلب من الإمام ان يخطب ابنته (زينب) أم الفضل، فخطبها امامنا عليه السلام ، وجرت مراسيم الخطبة في نفس المكان والزمان، ثم إن عليه السلام بذل لها من الصداق بقدر مهر جدته فاطمة الزهراء عليها السلام، وهو اربعمائة درهم.
وربّ هناك من يسأل عن سبب موافقة الامام على الزواج من بنت المأمون، وهل كان بالامكان تفادي هذا الموقف؟
الاجابة بكل بساطة إن ظروف إمامنا الجواد عليه السلام لم تكن لتختلف عن ظروف والده الرضا عليه السلام لاسيما وانهما كانا في مواجهة طاغية واحد، فهم لم يكونوا مخيرين فيما كان يوجهه اليهم المأمون، فاقتراح الزواج هو نفسه اقتراح ولاية العهد، الفارق هو ان اجواء الزواج و طقوسه تخفي التهديد ولهجة الفرض والقوة، ثم ان إمامنا وكما هي سيرة اسلافه يحسب ألف حساب لمصير ومستقبل الشيعة والمؤمنين في العالم، فهذا القرب من النظام الحاكم يوفر على الشيعة الكثير من الدماء والجهود والطاقات لتنميةالعمل الرسالي، ولذا وجدنا جيلاً عظيماً من العلماء والمحدثين والوكلاء الخاصين نشأوا وترعرعوا في تلك الفترة واصبحوا رجال الشيعة البارزين في عهد الامام الهادي ثم الامام العسكري عليهما السلام.
وقبل الختام لابد من الاشارة الى ان هذا الزواج المفروض لم يثمر عن مولود، وبعد مضي سنين تزوج إمامنا من (سمانة) المغربية التي يعود نسبها الى عمار بن ياسر الصحابي الجليل، وهذا ما سبب في اشعال نار الغيرة في نفس بنت المأمون، وكانت تشكو لأبيها وجود هذه المرأة في بيت إمامنا، حتى قيل ان هذا الحسد كان الدافع لقتلها إمامنا الجواد بدسّ السمّ اليه.
ومن هذه المرأة الجليلة (سمانة) رزق إمامنا الجواد عليه السلام ولدين: الامام علي الهادي عليه السلام، ومن بعده: موسى المعروف بـ (المبرقع)، وهو الذي ينتهي اليه نسب السادة الرضويين، وكان موسى حسن الوجه جميل الصورة وسبب تسميته بـ (المبرقع) لأن الناس كانوا يطيلون النظر اليه، فاضطر لأن يضع على وجهه برقعاً ليبتعد عنه الناس، وهو اول من انتقل من الكوفة الى مدينة قم المقدسة من السادات الرضوية في سنة 256للهجرة.
وفي سنة 220 للهجرة استشهد إمامنا الجواد في بغداد عاصمة الدولة العباسية بعد ان استدعاه المعتصم العباسي، ونحن نعلم بتعلّق أئمتنا بمدينة جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يطيقوا فراقها، لكن سياسات القمع والتنكيل حالت دون ذلك، وقد غرر هذا الطاغية زوجة إمامنا بأن تدسّ له السمّ في العنب وتسقيه بعد ان اشتعل قلبها بلهيب الغيرة والحسد، لتكون ثاني إمرأة ترتكب جريمة قتل إمام معصوم، ويروى انها لما سقت امامنا بالسمّ ندمت على فعلتها وبكت، فقال لها إمامنا: (ما بكاؤك...؟! والله ليضربنك الله بعُقر لا ينجبر وبلاء لاينستر)، فماتت في علّة لم تشف منها مع كل ما انفقت من أموال ابيها وملكه الكبير.