قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الفلاّح في الشعر العربي
*هادي الشمري
يكاد تاريخ الشعر العربي يخلو من كلمة (فلاح)، إذ لم ترد هذه الكلمة إلا نادراً في إشارات ليست بذات أهمية و كذلك ينطبق الحال على كتب التاريخ وليس هذا بعجيب على المؤرخين الذين أحاطوا بكل صغيرة وكبيرة عن الخلفاء والملوك والوزراء ولم يوجهوا إلتفاتة الى هذا الانسان الكادح إلا في ومضات ضئيلة. وقد ظل الفلاح محروماً من الاهتمام والإلتفات إليه حتى في كتب التاريخ الحديثة رغم أن الشرق بلاد خصيبة تصبح فيها الفلاحة مهنة منظمة يقوم بها الفلاحون أو (الأكرة) كما كانوا يسمون بعد الفتح الاسلامي. وكانت مهنة الفلاحة في الجاهلية تعد مهنة محتقرة فقد كانوا يرون هذا العمل شائناً لايليق بكرامة العربي الذي يجب أن يكون ذا همّة للقتال والسفر فالمجد يأتي من بريق السيوف والرماح لا من حصاد المناجل! وتؤكد أبيات لقيط بن يعمر الأيادي، ذلك عندما أنذر قومه من غزو سابور ذي الأكتاف ملك الفرس فقال:
إني أراكم وأرضاً تعجبون بها مثل السفينة تغشى الوعثَ والطبَعا
ألا تخافون قوماً لا أبالكمُ أمسوا إليكم كأمثال الدُّبى سُرعا
لا الحرث يشغلهم بل لا يرون لهم من دون بيضتكم ريّاً ولا شبعا
وأنتم تحرثون الأرض عن سفهٍ في كل معتملٍ تبغون مزدرعا
هيهات لا مال من زرع ولا إبلٍ يرجى لغابركم أن أنفكم جُدعا
فعدّ شاعرنا حرث الأرض سفهاً!! وبلغ هوان الفلاح عند المؤرخين أنه اهملوا شأنه ولم يعدوه ضمن طبقات أهل البلاد فعدّوا أصحاب السيوف وأرباب الأقلام والعلماء والكتاب وكتاب الأموال والصيرفيين والأطباء والخدام أما الفلاح الكادح الذي يبذر الحب فقد بقي ينتظر ثمار مجهوده وكده في عده ضمن هذه الطبقات ولكن بدون جدوى اللهم إلا أن يكون أسمه في صدارة سجلات كشوف المتحصلات من الغلات لتجري على إنتاجه عملية التسجيل والتقييد التي أثقلت كاهله وضيقت عليه الخناق حتى لا يفلت منه لذمة المالك أو الحاكم حبة قمح أو دانق.
وقد عانى الفلاح وعلى مدى عصور طويلة من الظلم والاستغلال فقاعدة الحكام في معاملة الفلاحين هي القهر والارهاق وسيرة الاقطاعي فيهم بالظلم والاستغلال، فجاءت حركة تصوير بؤس الفلاح في الشعر الحديث لتثير الأحاسيس وتهز الضمائر وتعبر عن هذه الانسانية المغصوبة ولعل قصيدة (الاقطاع) للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري والتي قالها عام 1939 قد قلبت الموازين لصالح الفلاح ونوهت الى ما يعانيه من الظلم ودعت الى حمايته من الإقطاعيين وقد كان شاعرنا فيها جريئاً وصريحاً ودقيقاً في وصف المعاناة كما كان لطاقته الشعرية الكبيرة ومقدرته اللغوية البالغة أبلغ الأثر في إجادة الوصف وإتقان الصورة وإثارة الإشفاق يقول فيها:
ألا قوةٌ تسطيع دفع المظالمِ وإنعاش مخلوقٍ على الذلّ نائمِ؟
ألا أعين تلقى على الشعب هاوياً الى حمأة الأدقاع نظرة راحمِ؟
وهل ما يرجى المصلحون يرونه مواجهةً، أم تلك أضغاث حالمِ؟
تعالت يد الأقطاع حتى تعطلت عن البتّ في أحكامها يد حاكمِ
وحتى استبدت بالسواد زعانفٌ الى نفعها تستامه كالبهائمِ
إذا رمت أوصافاً تليق بحاله تعرفتها، ضاقت بطون المعاجمِ
ألا تستحي من أن يقال: بلادهم عليها من الإذلال ضربة لازمِ
هي الأرض لم يخصص لها الله مالكاً يصرّفها مستهتراً في الجرائمِ
ولم يبغ منها أن يكون نتاجها شقاوة مظلوم ونعمة ظالمِ.. الخ
وكانت هذه بداية الثورة على الاقطاعيين ولكن عند الجواهري وليس عند بقية الشعراء فقبل هذه القصيدة بأربعة عشر عاماً أي في عام 1925 كتب الشاعر الكبير علي الشرقي قصيدة بعنوان (منجل الفلاح) وكانت عبارة عن صرخة تعبر عن ألم الفلاحين يقول فيها:
ما لهذا الفلاح في الارض روحٌ أهو من معشرٍ بلا أرواحِ؟
هو في جنةٍ ينال عذاباً وهو تحت الاشجار أجرد ضاحِ
وقرى النمل لهف نفسي أثرى من قراه إلا من الأتراحٍ
ثم يسترسل في انفعاله ليصل الى هذه الصورة التي تستحق كل الرثاء والاشفاق:
أرهقته ضرائبٌ باهظاتٌ وديونٌ ثقيلة الأرباحِ
لو كشفنا عن قلب ذاك المعنّى لوجدناه مثخناً بالجراحِ
خصّ من نهره ومن شاطئيه بخسيس المرعى وبالضحضاحِ
كما صور في قصيدته المفارقة بين مرح الحيوانات وسرورها في الحقول وبين حزن الفلاحين وبؤسهم قائلا:
في مروجٍ من حولها قد تناغت كل صدّاحةٍ الى صدّاحِ
يا ربوعاً حيوانها يتغنى بسرور وأهلها في نياحِ
ومراعٍ سروحها إن تناغت جاوبتها رعاتها بصياحِ
كم على أرضها نكتًُّ بعودي وعلى أهلها صفقت براحي
تسعد الشاةُ في المراح وراعي الشاة يلقى شفاءه في المراحِ
ونجد شاعراً آخر شارك الشاعرين الكبيرين الجواهري والشرقي في تصوير شقاء الفلاح ووصف سوء حاله وهو الشاعر الكبير أحمد الصافي النجفي الذي وازن في قصيدته (الفلاح) بين جراح الفلاح من أثر العمل وجراح قلبه الدامية من أثر الظلم الواقع عليه يقول فيها:
لكَ في الصباحِ على عنائكَ غدوةٌ وعلى الطوى لكَ في المساءِ رواحُ
هذي الجراحُ براحتيكَ عميقةٌ ونظيرها لك في الفؤادِ جراحُ
في الليل بيتك مثل دهرك مظلمٌ ما فيه لا شمعٌ ولا مصباحُ
فيخر سقفك إن همت عين السما ويطير كوخَك إذ تهبُّ رياحُ
حتى الحمامُ عليك رقّ بدوحه فله بحقلك رنّةٌ ونواحُ
وامتدت رقعة الاحساس بمعاناة الفلاح والثورة على القطاعيين في الشعر العربي الى خارج حدود العراق ليشارك الشاعر اللبناني والمصري، الشاعر العراقي جهوده في تصوير هذه الحالة المأساوية، يقول الشاعر اللبناني شفيق المعلوف:
وفّى الحياة ديونها كرماً وما وفيت ديونه
ومضى تشقُّ الأرض قبضته بعزمٍ لا يخونه
عَرَق الجهاد همى على عينيه فانطبقت جفونه
هلاّ نظرت جبينه؟ كم فيه لؤلؤة تزينه
ضنت عليه بالدموع عيونه، فبكى جبينه
كما انتفض الشاعر المصري على هذا الواقع المؤلم وكان أول صوت شعري ارتفع هو صوت الشاعر أحمد محرم عام 1932 مندداً بالإجحاف الذي لا قاه الفلاح المصري:
هلا سألت عن الفلاح ما صنعت به الخطوب وهل أبقت له جَلَدا؟
جفّت موارده القصوى فطاح به ما ذاق من عنت الأيام أو وردا
إن يطلب المال تعجزه وسائله وإن يصبه يجده صاحباً نكدا
عون الكنانة إن أودى به حدث فلن ترى بعده عوناً ولا عضدا
إن الذي كان من أعوادها نضراً ما أنفكَّ يعصر حتى جف أو جمدا
ولم تكن هذه القصيدة هي الصوت الوحيد الذي أطلقه أحمد محرم فبعد بضع سنوات يطلق صوتاً آخر ليلفت الانظار الى ما آل إليه حال الفلاح فيقول:
قل للجداولِ والزروعِ تحدثي في غير ما وجلٍ ولا إشفاقِ
ماذا يمارس من شدائد دهره من أنتِ كل رجائه ويلاقيِ؟
ويلي على فلاح مصر أم كفى ما ذاق من عنت ومن إرهاقِ؟
يغني ألوف المترفين بماله ويعيش في فقر وفي إملاقِ
ويصور الشاعر محمود غنيم في قصيدته (راهب الحقل) الفلاح، على حقيقته حيث يكدح وثمرة كدحه لغيره ثم لا يجد – في النهاية – غير الصاب يلعقه:
ما لهذا الملاك أمسى وأضحى وهو نهب مقسّم لعصابة
صرفوا الراهب البتول عن الله وصاروا من دونه أربابه!
أمن العدل أن يعيش أسير الحقل من شاب بالدماء ترابه؟
كم جنى القمى عسجداً، وجنى القطن لجيناً وبات يلعق صابه!
يطرق الخير كل باب إذا ما أثمرت أرضه، ويترك بابه
وقد اكتمل تصوير شقاء الفلاح عند الشاعر محمود حسن اسماعيل الذي عبر بدقة عن ألمه الطويل وكدحه المرير فيصفه بقوله:
ناسكٌ في الحقول، هيمان بالأرض يحلّي بتربها دعواته
حملت فأسه من الغيب سراً حير العقل كامنٌ من صفاته
حطب يابس يمر على الصخر فتزهو الورود في جنباته
أتواسيه في الضنى نبتة الحقل ويغضي الانسان عن حسراته؟
واستمرت أصوات الشعراء في الدعوة الى تحرير هذا الانسان من ظلم المالك والاقطاعي عبر حركة تصوير الشقاء الذي يكابده الفلاح تصويراً شعرياً مؤثراً قائماً على الإحساس الحقيقي بمشكلته والشعور الأليم بمشاعره ومحاولة رفع الأصوات – نيابة عنه – للتنبيه الى إصلاح حاله ما دام هو اليد القوية التي تضرب الأرض بالفأس فتحول ثراها الى رزق وفير حتى أدت هذه الثروة الشعرية نتائجها وأعطت ثمارها فكانت فرحة ثانية للفلاح الى جانب فرحته بثمار الأرض. أما الشاعر فإلى جانب مشاركته الفلاح في هاتين الفرحتين فقد اضاف إليهما فرحة ثالثة وهي أن شعره الهادف قد أدى وظيفته بإحساس صادق في المشاركة بالإصلاح الاجتماعي.