قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
في ذكرى وفاته..
السيد عبد الحسين شرف الدين .. جهاد الكلمة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *إعداد / حسين محمد علي
كلما وقفنا أمام رموزنا وشخصياتنا الدينية، اكتشفنا حجم القصور في التعريف بهم والتعويض عما لحق بهم من تهميش وتغييب، كما نكتشف بعد المسافة بين هؤلاء وبين الأجيال المتعاقبة، حتى باتت اليوم لا تسمع عن السيد عبد الحسين شرف الدين إلا أن تقرأ اسمه على غلاف كتاب (المراجعات)، ولا تعرف السيد حسن الشيرازي إلا من خلال قصائده الحماسية والمدوية ضد التيارات الفكرية المنحرفة في العراق، وهكذا سائر رموزنا، في حين القيام برحلة قصيرة في سيرة حياة هؤلاء كفيلة بان تتكشف لنا الكثير من الحقائق عن دورهم في مواجهة الاستعمار الاقتصادي والسياسي والثقافي، الى جانب دورهم الاجتماعي البنّاء، وكل ذلك تُعد تجارب غنية للحاضر والمستقبل
ولد السيد عبد الحسين شرف الدين (قدس سره) في الكاظمية سنة 1290 هـ. من أبوين كريمين تربط بينهما أواصر القربى، ويوحد نسبهما كرم العرق، فأبوه الشريف يوسف بن الشريف جواد بن الشريف إسماعيل، وأمه البرة (الزهراء) بنت السيد هادي ابن السيد محمد علي، منتهيين بنسب قصير إلى شرف الدين أحد أعلام هذه الأسرة الكريمة.
*تحدي الاحتلال
تميزت شخصية السيد عبد الحسين شرف الدين في لبنان مطلع القرن الماضي، بالتصدّي للاستعمار الفرنسي وقبل ذلك بالتعسف والاضطهاد العثماني، فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى، عاش المسلمون في لبنان ويلات هذه الحرب، فقد كانوا جزءاً من وقودها، حيث كانت الدولة كالعثمانية تزجّ بالرجال والشباب الى سوح القتال، وكان مجرد ذهابهم بمعنى ترمّل النساء وتيتم الاطفال، فكان السيد شرف الدين الى جانب دوره كعالم دين، ينهض بمسؤوليته الاجتماعية والاخلاقية بالتخفيف من وطأة المعاناة عن المسلمين كافة بسبب تلك الحرب المدمرة والعبثية، ذلك بتوفير الطعام للفقراء والجياع، كما كان يواسيهم ويصبرهم، وبعد انقشاع غيوم الأزمة، وانتهاء الحرب بهزيمة العثمانيين، لم يتخذ السيد شرف الدين موقفاً جديداً نظراً للتطورات والمستجدات على الساحة الدولية، حيث تم تقسيم العالم الاسلامي الى مناطق نفوذ وهيمنة بين بريطانيا وفرنسا، وبما ان منطقة الشام التي كانت تضم سوريا ولبنان، من حصة فرنسا، فانه لم يشعر بالسعادة قط بدخول الجيوش المحتلة الأراضي الاسلامية، لأن لم تنقض سوى أيام حتى سقطت ورقة التوت عن الوجه الفرنسي – الصليبي الذي توجه فوراً لمحاباة الموارنة على حساب المسلمين الاكثرية، وظهرت المساعي منذ ذلك اليوم لتأسيس دولة يقودها الموارنة في لبنان، وهذا ما لم يسكت عليه علماء جبل عامل، وفي طليعتهم السيد عبد الحسين شرف الدين.
ومن أبرز مواقفه رفض فصل سوريا عن لبنان، وكانت هي فكرة فرنسية للانفراد بلبنان وترك سورية وفلسطين للبريطانيين، فقد طالب بالاستقلال التام لبلاد الشام أو (سوريا) على حدودها الطبيعية التي كانت تضم آنذاك سوريا الحالية ولبنان وفلسطين، وكل ما يعرف سابقاً بـ(برّ الشام).
وبعد التشاور مع اعيان البلاد وعلمائها رفع السيد شرف الدين مذكرة إلى لجنة (كينغ – كراين) الأميركية لتقصي الحقائق تضمنها خلاصة الآراء التي اتفق عليها في الإجتماع، وكان من أهم بنودها استقلال سورية التام والناجز بحدودها الطبيعية التي تضم قسميها الجنوبي (فلسطين) والغربي (لبنان) وكل ما يعرف ببر الشام، دون حماية أو وصاية.
*إعلانه الجهاد
تداعى علماء جبل عامل و زعماؤه و وجهائه وعلى رأسهم السيد شرف الدين للتشاور في خطة موحدة يسير عليها الجميع في مواجهة الفرنسيين وعقد مؤتمر عام على رأس نبع الحجير في أحد الأودية الوعرة المعروفة من شعب جبل عامل قلعة المقاومة آنذاك، حيث بحثوا الموقف السياسي من جميع جوانبه. ومما جاء في الخطبة التاريخية التي ألقاها أمام الحشود والتي حملت إلى الملك فيصل في سوريا: (يا فتيان الحمية! إنما الدين النصيحة، ألا أدلكم على أمر إن فعلتموه انتصرتم، فوتوا على الدخيل الغاصب برباطة الجأش فرصته، واخمدوا بالصبر الجميل الفتنة فإنه والله ما استعدى فريقاً على فريق إلا ليثير الفتنة الطائفية ويشعل الحرب الأهلية... إخواني وأبنائي: إن هذا المؤتمر يرفض الحماية والوصاية، ويأبى إلا الإستقلال التام الناجز ... فاركبوا كل صعب وذلول صادقي العزائم، متساهمي الوفاء، وما التوفيق إلا بالله، يؤتي النصر من يشاء ... عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير).
فتوى الجهاد هذه، كان لها ثمن باهض لم يتوانَ السيد شرف الدين عن تسديده عن طيب خاطر، فقد تعرض للمطاردة من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي والحكم عليه بالاعدام غيابياً، ثم وجهوا قوة عسكرية يقصدون بلدة (شحور) حيث كان السيد قد ذهب إليها فحرقوا فيها داره. كما أنهم احتلوا قبل ذلك داره في مدينة صور ونهبوا فيها مكتبته العامرة والحاوية لأنفس المؤلفات المطبوعة منها والمخطوطة.
وكان السيد شرف الدين (قده) في البلدة حين دخول الجيش الفرنسي ولكنه نهض مسرعاً وقد وضع عباءته على عمامته فأعمى الله تعالى أبصارهم عنهم فوصل إلى مغارة قرب نهرالليطاني بقي بها مختبئاً طيلة النهار حتى إذا عرف رجوع الجيش عن شحور عاد تحت جنح الظلام وبات ليلته ثم توجه إلى الشام متنكراً حتى وصلها سالماً وقد أكرم الملك فيصل الأول ضيفه الكبير وحله المحل اللائق، وكان الأخير قيد نُصّب كأول ملك على سوريا بعد زوال السلطة العثمانية عن البلاد الاسلامية.
*المراجعات
في سنة تسع وعشرين وثلاثمئة وألف هجرية زار السيد شرف الدين مصر واجتمع فيها بكبار علماء الأزهر وعلى رأسهم الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر آنذاك، ودخل مع الأخير في حوارات ومناقشات أثمرت عن كتاب يُسمى اليوم (المراجعات). وقد تحول عند الكثير من المسلمين في العالم الى أحد مصادر النقاش حول صحة عقيدة التشيّع وردّ كل الشبهات والافتراءات عنه.
وفي حوالي سنة 1328 هـ. زار المدينة المنورة، وتشرف بزيارة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ومراقد أئمة البقيع (عليه السلام) قبل أن تطالها أيدي الوهابية لتدمرها وتسويها بالأرض. ولعل السبب هو ما أدركه الاستعمار من التأثير الكبير والبالغ لمشروع السيد شرف الدين في استيعاب ابناء العامة الى حظيرة التشيّع والاسلام الحقيقي، فقد كان يلتزم منهج النقاش الموضوعي والعلمي الذي لايدع مجالاً للشك في خطأ الجانب المقابل. وفي سنة 1340 هـ حج بيت الله الحرام عن طريق البحر ومعه خلق كثير من جبل عامل، في عهد الشريف حسين الذي كان يتولى سدانة الكعبة المشرفة، وكان الموسم في ذلك العام من أكثر مواسم الحج حشداً وأكثرها ازدحاما وإقبالا على هذه الفريضة ولعل مكة لم تشهد مثل هذه الموسم منذ عهد بعيد، وكان في الحجيج تلك السنة العديد من علماء الدين و الزعماء من مختلف البلاد، وكان السيد في مقدمتهم، وفي ذلك وقف السيد شرف الدين أمام الكعبة المشرفة ليصلي بالحشود المليونية جماعةً، في منظر مهيب قلّ نظيره.
*آثار خالدة
أقام السيد عبد الحسين شرف الدين عدة مشاريع تربوية ودينية عملاقة في لبنان، ماتزال ماثلة للأجيال، منها إنشاء أول حسينية في مدينة صور الساحلية، فلم يكن للشيعة مسجد في مدينة صور يوم جاء‌ها السيد، لذلك تملك دارا، ثم وقفها حسينية في بدء التأسيس، ثم حين سنحت الفرصة انشأ مسجدا من أضخم المساجد في مدينة صور، وأجملها هيكلا له قبتان عظيمتان، ومنارة شامخة، وباحة رائعة أمام إيوان واسع، يتصل بأبواب المسجد الرحب.
وحين تم هذا المسجد الجامع العظيم، بدأ بإنشاء ما كان يشغل تفكيره منذ فترة طويلة، وهو إنشاء مدرسة حديثة تمثل مبدأه التربوي في مقولته: (لا ينشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال)! وقد أنشأ في أولى المراحل على مدخل المدينة، ستة مخازن، وشيد على سطحها دارا واسعة مراعيا فيها أن تكون يوما ما المدرسة المرجوة، لكن إنجاز هذا المشروع لم يكن يومئذ ممكنا لمعارضة كانت من السلطة ومن سار في ركابها من ذوي المصالح الفردية، وبهذا اضطر إلى الاكتفاء يومئذ بهذا القدر ينتظر الفرصة المواتية.
وفي الوقت المناسب ظهرت سنة 1357 هـ، (المدرسة الجعفرية) المثلى، وقد أضاف إليها في الدور الأول مسجدا خاصا بالمدرسة وطلابها، ورفع على سطحه بناء آخر يماثل المدرسة أضيف إليها أيضا، فكانت المدرسة بذلك مؤلفة من نحو خمس عشرة غرفة عدا الأبهاء والساحات. و رفع من الجهة الأخرى ناديا فريدا، سماه (نادي الإمام جعفر الصادق)، طوله اثنان وعشرون مترا ونصف المتر، وعرضه خمسة عشر مترا ونصف المتر، وقد أعده للاحتفالات والمواسم العلمية والدينية والاجتماعية والمدرسية. ثم أسس بعد كل ذلك مدرسة للبنات في سنة أحدى وستين هجرية وهي تتوخى ما توخته مدرسة الذكور من التوفيق في التربية بين المناهج الصالحة الضامنة لحياة أمثل وأفضل.
يتضح من خلال القراءة السريعة لسيرة حياته المضيئة أنه كان يكابد على جبهتين: الاولى؛ داخلية وهي أصحاب الرؤى الضيقة والمصالح الشخصية من اتباع الاستعمار وعبّاد السلطة، والثانية؛ خارجية، حيث التأثيرات الثقافية القوية ومخلفات المستعمر من طباع وتقاليد غير دينية، فلم يكل أو ييأس، بل واصل طريقه لنشر التعاليم الدينية ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) بما يتناسب والظروف الخاصة بلبنان.
*الرحيل
ارتحل السيد عبد الحسين شرف الدين عن الدار الفانية يوم الاثنين 30 كانون الأول سنة 1957 الموافق في 8 جمادى الثانية سنة 1377 هـ، وكان يوماً حزيناً حقاً على المسلمين في لبنان في كل العالم، ودفن بناء على وصية منه في النجف الاشرف بجوار جده الإمام علي بن أبي طالب داخل الصحن في أحدى الغرف المحيطة بالضريح.
******************
*المصادر:
من مخطوطات السيد عبد الحسين شرف الدين (غير مطبوعة) نسخها ونقلها ولده السيد جعفر ..
(بغية الراغبين) (كتاب مخطوط) .