قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

القرآن الكريم .. سبيلنا لمعرفة العقل
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّالدين
إذا كان لكل باحث منهج للبحث ثم أسلوب للعرض نابعان من نظرته الخاصة الى العقل والمعرفة، فان منهج القرآن واسلوبه نابعان ايضاً من نظرته الآتية الى العقل والمعرفة، فلا منهج افضل من التوجه الذاتي، ولا اسلوب افضل من التوجيه الذاتي. فالتذكر والتذكير هما السبيلان المفضلان في حقل العقل والمعرفة، كما في سائر حقول الفلسفة وعلم النفس لدى القرآن. ثم أننا بمعرفة العقل، نهتدي الى المنهج السليم للمعرفة، وإلى طبيعة الإنسان النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإلى كثير من الحقائق الهامة. ذلك ان الرأي الحازم في حقل معرفة العقل يعطينا قاعدة راسخة للعلم وسُبُل تحصيله. كل ذلك سنعرفه على ضوء القرآن الكريم
التذكرة الاولى التي نبّهنا إليها القرآن الحكيم وعلومه هي: ان العقل تختلف معرفته عن أي شيء آخر، وان السبيل الوحيد الى معرفته هي شدة اثارته، حتى يتنبه الى نفسه ويعي مكنونات ذاته بذاته. وقد تبدو هذه الحقيقة مستصعبة لأمرين:
الأول: إن الانسان تعوَّد أن يعرف الأشياء بمُعَرِّفات خارجة عنها، كمعرفة اللون بالعين ومعرفة العين بالإحساس ومعرفة الإحساس بالعقل، أما معرفة الشيء بذاته فلم يتعودها البشر، فهي مستصعبة عليه لعدم العادة فيه.
الثاني: إن جميع توجيهات البشر الفلسفية، تقيس معرفة العقل بمعرفة أي شيء آخر، وتحاول الحصول عليها بمساعدة أمور خارجية. ولذلك فان طريقة القرآن جديدة عليها ومباينة من حيث الأساس مع الرواسب الفكرية لكل من له خبرة بالفلسفة البشرية او نصيب من توجيهها. من هنا كان علينا توضيح هذه الحقيقة ببضعة نقاط:
1- أنّى تصورنا حقيقة العقل، فهي لا تعدو ان تكون واقع الكاشف عن حقائق الكون. ولا ريب في ان حقائق الكون لا تكشف عن ذاتها، بصورة آلية، انما يجب الكشف عنها باداة نسميها بالعقل. وإذا عدنا الى العقل نواجه حقيقة بديهية هي ان الحقائق التي لم تكن تقدر على كشف ذاتها لا تستطيع ان تكشف لنا عما سواها، وابسط مثل توضيحي لذلك، العين التي تكشف عن الأشياء لنا، ورغم ان طبيعة الأشياء موجودة قبل ان تكون هناك أية عين، فان رؤيتها والكشف عنها من عمل العين لا من عملها وحين تريد العين رؤية ذاتها يعرف الانسان ان الأشياء التي عجزت عن ان ترينا ذاتها بدون العين - مثلاً - في حالة اغماض العين فانها لن تقدر على ارائتنا العين، بل العين هي التي ترى ذاتها عبر مرآة. وكمثل مبسط آخر؛ النور يكشف عن المظلمات، وفي الوقت ذاته يكشف عن ذاته، حيث لا يمكن ان يكشف عنه مظلم آخر. وبتعبير ثالث النور القادر على كشف الأشياء أليس بقادر على كشف ذاته؟ كذلك العقل لايمكن ان يكشف عن كل شيء ثم يبقى مجهولاً.
2- فكيف إذاً تستطيع العين ان تبصـر نفسهـا؟ انظر الى الأشياء ببساطة، فإذا رأيتها بوضوح تعرف ان عينك سليمة، أما إذا غشاها الغبار فاعرف ان عينك مصابة. كذلك لو اردت ان تعرف عقلك، فأكثر النظر في العلم، وفي الحقائق التي بعقلك، ومن خلالها حاول تقييم عقلك، او بالأحرى فليحاول عقلك تحليل ذاته. انهما عمليتان لابد منهما لكشف العقل، و كشف الحقائق والعبور من خلالها الى واقع الكاشف تماماً كما تنظر الى الأشياء المضاءة بالنور لا لتكشف عنها، بل لتعبر منها باتجاه النور الذي اضاءها. وهذه العملية (عملية العبور من المكشوف الى الكاشف) تشبه عملية العبور من الآيات الى معرفة اللـه سبحانه.
3- وبتكرار عملية العبور هذه يزداد وعي العقل لذاته ويقظته تجاه مكنوناته، وتشتد ثقته بقدراته، ويقتدر على كشف حقائق جديدة. (1)، وهذه الظاهرة (زيادة العقل بشدة إثارته) هي الظاهرة التي فشلت في تفسيرها فلسفات البشر. فقال ارسطو: المعلومات تكشف عن مجهولات جديدة، في الوقت الذي لا يمكن - ان نظرنا بدقة- ان تكون المعلومات التي كانت حتى وقت قريب مجهولات وبحاجة الى الكاشف، تكون كاشفة لغيرها، بل الممكن والواقع هو ان المعلومات تزيد العقل قدرة على كشف حقائق جديدة، فالعقل لا المعلومات يكشف كل شيء، وانما المعلومات تزيده قدرته.
وقال هيجل: تنطلق معرفة الإنسان من نقطة الجدل الذي سمّاه بعض ناقديه بفض الفكر نفسه. ولعله عنى بذلك ان الخارج يكون وسيلة ليس إلا نحو المزيد من إثارة العقل.
وهكذا ظلت الفلسفات عاجزة عن تفسير ظاهرة التفاعل بين المعرفة وبين العقل. في حين ان التفسير الصحيح لذلك: ان العقل يتنبه لذاته، كلما تنبه للخارج.
4- طريقة معرفة الأشياء بمعرفة العقل التي تعني زيادته أيضاً، والطريق الى معرفة العقل العبور من خلال المعارف الواضحة إليه، ثم بعد تقويته العودة الى الحقائق الغامضة لكشفها، وهكذا حتى ينكشف العقل بصورة واضحة لنفسه.
وربما يتساءل البعض: كيف تتم (النظرة العبورية)؟
والجواب: فرق كبير بين ان تنظر الى المرآة كسلعة تقتنـى، وبين أن تكون كمعبّر للصورة المنعكسة من الوجه العائدة الى الوجه ايضاً، ففي الصورة الأولى تكون النظرة ذاتية الى المرآة نفسها وفي الصورة الثانية تكون النظرة (عبرية) و من اجل الوجه المنعكس عليه. ولعل الإنسان في تلك الحالة ينسى وجود شيء آخر غير العين، التي ترى والوجه الذي يرى، أي ينسى مؤقتاً وجود المرآة. كذلك حين يلاحظ الفرد معلوماته على انها اشياء قائمة، يختلف عما إذا لاحظها على انها منكشفات بالعقل بعد ان كانت غامضات ومنورات بالعلم، فالخير الذي لا يرتاب عاقل في حسنه، كان والشر سواء امام الفرد في لحظة غضبه العارم، إلا انه عاد فميزهما عن احدهما بعدئذ، والنظر العبوري يهدينا الى وجود امر ما في الفرد عندما اكتشف الخير بينما لم يكن من قبل. إن ذلك الأمر الذي افترقت به حالتا الغضب والصحو هو ما نسميه (العقل).
5- المنهج الجديد في معرفة العقل لا يختص بثبوت العقل، بل يكشف ايضاً لو اتبع مضبوطاً عن صفات العقل. واسباب زيادته ونقصانه وسبُل بلوغه الحقائق. فأول ما يكشف عن العقـل من صفات نفسية ارتباطه الوثيق بالمشيئة البشرية والتي تستنير او لا تستنير بالعقل، إذ العقل كأية نعمة موهوبة للإنسان، رغم انها ملك الإنسان ومستجيبة لحاجته، لا يفرض ذاته عليه، بل يخضع له خضوعاً، فأنت قادر على ان تستنير من عقلك فتفكر وتستطيع ان تدع ضوء عقلك ولا تفكر ابداً، وإذا اردت ان تفهم ان الوقت نهار تستطيع ان تفهم ذلك بلفتة، اما إذا لم ترد فيكفيك ان تتوجه الى أشياء اخرى.
وهذه الصفة تهدينا الى اهمية التركيز في المعرفة، إذ ان التركيز لا يعدو التوجه التام الى حقيقة ما، باستعمال العقل كله فيها، كما ان البلبلة التي ليست سوى ضعف في الارادة وعدم القرار الحازم بها، تسبب الضعف العقلي لانها تفقد التركيز.
وحالات الانهيار العصبي الذي يأتي احياناً على الإنسان بسبب الغضب الشديد او الشهوة العارمة، او الحزن العميق، هو الآخر يضعف الارادة فيؤثر على نفاد العقل.
6- إذا كانت الإرادة ضرورة عقلية بحيث يستحيل على البشر ان يهتدي دون ان يختار الهداية، ولا ان يعرف دون ان يريد المعرفة، فقد ارتبط حقل التعليم بالتربية، والعرفان بالايمان، والعلم بالعمل. إذاً؛ مادامت التربية هي القدرة على ضبط النفس حسب الإرادة الحرة، ولا يعدو ان يكون الإيمان والعمل نوعين من التربية،. فان العقل يتأثر بها، إذ يتأثر العقل بالإرادة.
من هنا فان العقدة التي يعاني منها الضالون، هي عقدة نفسية آتية من فقدهم الإرادة، التي تحررهم من الرواسب والمخاوف وتجعلهم يفكرون بصورة منطقية. فأول ما ينبغي معالجته فيهم؛ الارادة الكسولة العاجزة، حتى تحررهم من الضغوط الخارجية التي تفرض عليهم نوعاً خاصاً من الافكار. وهناك فقط يستضيئون بنور العقل الذي سيهديهم الى صراط الحق.
القرآن الكريم يسمّي العقدة النفسية التي تحول بين المرء والحقيقة، بـ(الهوى)، فيقول مندداً بها: "فإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللـه إِنَّ اللـه لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (القصص /50)، وفي آية أخرى: "وَمِنْهُم مَن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ اُوتُوا الْعِلْـمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَـــعَ اللـه عَلَى قُلُوبِهِـمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُــمْ" (محمد /16).
وفي آيات كثيرة نجد اتّباع الآباء او البيئة الاجتماعية او الظروف الاقتصادية، سبباً قوياً لضلالة الإنسان، ولكنها جميعاً اسباب ارادية خاضعة لمشيئة الانسان ذاته، الذي يدعوه القرآن مرة بعد اخرى الى تحرير نفسه عن ضغوط هذه العوامل المضادة للمعرفة الصادقة.
7- هل يستضيء بالعقل من لا يريد ان يهتدي الى الحق؟ كلا. وهنا نكتشف العلاقة الوثيقة بين العقل وبين اتّباع الحق. فالعقل يهدي الى الحق، وحب الحق، وارادة اتّباعه يدعوان الفرد الى العقل. ومن هنا تأتي ضرورة التسليم للحق، ورفض الاستكبار عليه. وبمدى التسليم للحق واتباع سبله، يرتبط قوة العقل في الإنسان، فكلما كان الفرد اكثر تجرداً عن سابقياته واكثر تحفزاً الى معرفة الحقيقة كلها، كلما اقترب الى الواقع وكان اكثر عقلاً.
وانطلاقاً من هذه البنود نستطيع رسم المنهج القرآني للبحث العلمي الذي يوجز في الامور التالية:
أ- على الباحث إثارة عقله، بطول النظر فيما يكشفه العقل من حقائق بديهية نظراً (عبرياً) يبصر من خلال الحقائق المضادة، الى اشعة عقله المضيئة لها تماماً كما ينظر الإنسان الى المرآة ليرى من خلالها عينه الباصرة.
ب- على الباحث تحرير نفسه من الضغوط الخارجية والرواسب القديمة، ويستعد لاستقبال أية حقائق يتوصل اليها عقله بعده.
ج- عليه ان يحب الحق، ويسلم عنان نفسه لقيادته، وان يشك فيما هو فيه، شكاً نقياً من كل شوائب الغرور الذاتي، وان يثق تماماً بقدرته على معرفة الحق، قدرة مطلقة.
د- التركيز في نقطة بحثه، دون التأثر بالشرود الذهني الآتي من قبل الشهوة حيناً والغضب حيناً آخر.
***********************
*الهامش في وسط الموضوع
1- لكي نكون امناء جداً على نظرات القرآن الحكيم لابد ان نذكر بان العقل نور، ومن حيث ذاته عدم التأثر بالخارج ولا يزداد ولا ينقص مقدار نوريته، بل كل ذلك من حيث اضافته الى النفس، فكل ذلك المذكور اعلاه عبارة عن مدى زيادة العقل في النفس.
(1) لكي نكون امناء جداً على نظرات القرآن الحكيم لابد ان نذكر بان العقل نور، ومن حيث ذاته عدم التأثر بالخارج ولا يزداد ولا ينقص مقدار نوريته، بل كل ذلك من حيث اضافته الى النفس، فكل ذلك المذكور اعلاه عبارة عن مدى زيادة العقل في النفس.
---------------
------------------------------------------------------------
---------------
------------------------------------------------------------