قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
في ذكرى استشهاده بالكوفة..
المختار. . طلب الثأر فأعاد تاريخ الخذلان
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *محمد علي جواد
النبل والفضيلة يتمثلان فيمن ترافق أهدافه سلوكه واعماله طوال حياته والى النفس الاخير، بل ربما تقتضي الظروف ان يضحي بامواله ونفسه من اجل اهدافه الحقّة فيسقط شهيداً وشاهداً على ما يناقض النبل والشرف من خصال النفاق والازدواجية والانتهازية وهذا ما يشهد له التاريخ الاسلامي، كما يشهد له واقعنا الحاضر، بل نقول؛ انها سنة الله تعالى في عباده الصالحين، ومنهم صاحب الذكرى في الشهر الكريم المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي اقترن اسمه بالاقتصاص من قتلة الامام الحسين عليه السلام وأهل بيته، ثم أخذ البيعة له من اهل الكوفة والعراق.
التأنّي في المعارضة والشدّة في العقيدة
بدايةً لابد لنا من نبذة مختصرة عن شخصية المختار الثقفي لنتبين في هذا الحيّز المحدود من منطلقاته واهدافه ومنهجه في التصدّي لاعداء أهل البيت عليهم السلام لتكون كفاية لنا – الى حدّ ما- للرد على كل محاولات التشويه والتحريف التي سعى اليها بعض المؤرخين المأجورين لمعاقبة هذا الثائر على فعلته العظيمة حتى تكون آخر حملة تطهير في الامة الاسلامية ضد الطغاة والظالمين.
تجمع المصادر التاريخية على ان المختار لم يكن يتبع نهج المعارضة المكشوفة للحكم الاموي منذ بلوغ الصراع ذروته بعد الهدنة مع معاوية، لكنه لم يخف تشيعه وموالاته العميقة لأهل البيت عليهم السلام، ومثال على ذلك رفضه طلب زياد بن أبيه بالشهادة على الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي بانه ممن (خلعوا الطاعة – لمعاوية- وكفروا كفرة صلعاء...)! بينما حصل زياد على هذه الشهادة من وجهاء آخرين في الكوفة تحت تهديد السيف. ومنذ ذلك الوقت خرج من الكوفة الى ضيعة له، ولم يعد اليها بعد ان دخلها مسلم بن عقيل سفيراً من الامام الحسين عليه السلام.
هذا الموقف ربما أغاض البعض من المؤرخين والباحثين، فراحوا يلصقون به تهماً رخيصة منها كان (عثمانياً)، وحينما هادن الامام الحسن عليه السلام، طلب المختار – كما يزعم بعض الرواة- من عمه سعد بن مسعود الثقفي ان يسلمه الى معاوية، علماً ان ثورة الغضب لدى المختار كانت رديفة لثورات اخرى كانت تغلي في نفوس كبار الشيعة والموالين امثال حجر وسليمان بن صرد لما آل اليه أمر التشيع وأهل البيت امام الانحراف الاموي، لكن يبدو ان هؤلاء يحبذون نماذج مثل حجر الذي عُرف باعلان المعارضة الصارخة والعنيفة ضد معاوية، فيكتب عنه انه قتل على يد معاوية او أي طاغية آخر وينتهي الامر، ثم يقال: (حجر رضي الله عنه قتله معاوية رضي الله عنه)!
وتكرر الموقف في اللحظات التاريخية العصيبة عندما كانت الكوفة على موعد لنصرة الامام الحسين عليه السلام وهو في طريقه اليهم من الحجاز، لكن ربما قرأ المختار المعروف تاريخياً بحنكته وفطنته، ما تضمره نفوس الكوفيين، فهو رأى التفاف الناس حول مسلم قبل وصول ابن زياد الى الكوفة، وكان في طليعة الداعين الى بيعة الامام الحسين وتقوية موقف مسلم سياسياً واجتماعياً، لكن هذا التأييد كان محمولاً على العواطف والاحاسيس الجياشة نحو سبط رسول الله صلى الله عليه وآله، وبالفعل لم تلبث هذه العواطف والاحاسيس ان تبخرت تحت حرارة سيف ابن زياد وحصل ما حصل لمسلم وهاني وآخرين. في كل الاحوال كان المختار في احد معتقلات الكوفة عندما جهّز ابن زياد الجيش لحرب الامام الحسين عليه السلام.
تكتيك لخطة استراتيجية
بعد استشهاد الامام الحسين عليه السلام واهل بيته واصحابه في كربلاء، حاول عبد الله بن الزبير استغلال الاجواء ا لمشحونة غضباً واستنكاراً على الجريمة الاموية الفظيعة، لكن نوايا واطماع ابن الزبير لم تكن لتخفى على شخص مثل المختار، لكن في نفس الوقت كان هو بحاجة الى تحالف يقوي شوكته امام الحكم الاموي وتحقيق هدفه بالانتقام من قتلة الامام الحسين عليه السلام واقامة الحكم الاسلامي انطلاقاً من الكوفة. فكان أن أقام في الحجاز تأييداً لحركة ابن الزبير ضد الامويين، بينما كان الاخير يراقب بكثير من الانتهازية الوضع الاجتماعي والنفسي للمسلمين وموقفهم النهائي من النظام الاموي بعد واقعة الطف، فكان يظهر التقوى والزهد والتباكي على قتلى الطف. وقد استفاد من ثورة المدينة وايضاً من الجرائم التي ارتكبها جند يزيد وانتهاكاتهم الفظيعة، وبعدها الهجوم على مكة ورشق الكعبة المشرفة بالمنجنيق، فوجد ان الاجواء مهيأة لأخذ البيعة لنفسه ليكون الحاكم على الحجاز والعراق وهي رقعة جغرافية غاية في الاهمية سياسياً واجتماعياً، ثم طلب بيعة المختار الذي اشترط ذلك بشروط رفضها ابن الزبير بدايةً لكنه قبلها فيما بعد منها ان لا يقضي امراً دونه وان يكون أول داخل عليه ويستعين به على افضل اعماله، ثم اصبح وزيراً له.
وحدث ابن الاثير في (الكامل) المجلد الرابع: ان المختار لازم ابن الزبير وشهد معه معاركه مع الحصين بن نمير وأبلى معه بلاءً حسناً، كما وصفه ابن كثير في (البداية والنهاية) بانه – المختار- كان وفياً لابن الزبير، لكن الاخير لم يكن وفياً معه فاضمر له الحقد ولم يظهره. ولعل اهم هاجس كان يقضّ مضجع ابن الزبير هو طموح المختار في الكوفة، وهنا يجدر بنا القول ان ابن الزبير كان يرى في المختار صورةً مماثلة له وهو في ذلك واهم، فالمختار لم يكن يريد السلطة والحكم من اجل الحكم كما هو حال ابن الزبير وأمثاله الذين لم يترددوا لحظة في انتهاك كل شيء لتحقيق هذه النزوة حتى وان كانت القربى من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، ولذا نجد المختار يترحم على سليمان بن صرد الخزاعي بعد استشهاده مع اصحابه (التوابون) ويقول: لقد قضى ما عليه وقد توفاه الله وجعل روحه من ارواح الانبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
الكوفة. . موعد مع الغدر
في ظروف خاصة لا نخوض فيها توجه المختار الى الكوفة تاركاً الحجاز وابن الزبير، وكانت حينذاك تغلي حقداً وغضباً على الزبيريين كما كانت كذلك على الامويين، فتصور المختار ان الوقت حان لأن يحقق هدفه باقامة الحكم العادل الذي يرتضيه الله تعالى، ويكون امتداداً لنهج أهل البيت عليهم السلام، علماً انه كان بصفة الوالي من قبل ابن الزبير على الكوفة، وقبل هذا بعث المختار الى الامام زين العابدين يطلب منه العون والتأييد لثورته في الكوفة لأخذ البيعة له، لكن الامام عليه السلام رفض العرض، وهنالك تحليلات واستنتاجات عديدة من مؤرخين وباحثين لهذا الموقف، لكن بالمحصلة يمكننا التأكد من أن الامام زين العابدين وهو الأعرف بالنفوس من غيره وأعلم بالاحوال السياسية والاجتماعية، لم يشأ ان يقحم نفسه في صراع أمام عدوين لدودين: الامويين والزبيريين في وقت لم يصل المسلمون الى تلك المرحلة اللازمة من النضج الثقافي الذي يجعلهم يواصلون المسيرة الى النهاية كما حصل مع اصحاب الامام الحسين عليه السلام، وكما حصل مع الثائرين من بعده. لكن بما ان المختار كان يجد الخيار السياسي ناجزاً في الكوفة اضطر لأخذ الضوء الاخضر من محمد بن الحنفية عمّ الامام السجّاد عليه السلام بان ينطلق في ثورته التغييرية.
دخل المختار قصر الامارة لأول مرة وبسط يده يطلب البيعة من الناس على كتاب الله والطلب بثأر أهل البيت عليهم السلام، ومناصرة من يناصرهم، ثم قام بتفريق ما وجده من الاموال في بيت المال بالسوية من غير ان يفرق بين عربي وأعجمي، مما جعل الموالي يلتفون حوله ويتفانون في طاعته، لكن بالمقابل اثار هذا النهج غضب الاشراف من القبائل العربية القاطنة في الكوفة، هذه الخصلة الذميمة الضاربة في الجذور الجاهلية كانت احدى بذور الشقاق وزعزعة جبهة المختار في الكوفة، ففي ا لوقت كان قد بعث ابراهيم الاشتر الى الموصل لمواجهة جيش الشام، استغل هؤلاء الجهلاء الطامعون باموال الدنيا، الفرصة للاجهاز على المختار في الكوفة فزحفوا على قصر الامارة في عدد غير قليل وحاصروه واحتلوا المراكز الرئيسة، فبعث المختار الى ابن الاشتر لأن يعود باقرب فرصة الى الكوفة، وكان له ذلك فتم القضاء على هذا التمرد، لكن يبدو ان هذا التمرد كان له فائدته للمختار، اذ ان خروج الاشراف العرب على المختار شجّع قتلة الامام الحسين واهل بيته على العودة الى الكوفة بعد ان فرّوا منها لدى سيطرة المختار عليها، وجاء في (الاخبار الطوال) للدينوري ان شمر بن ذي الجوشن وعمر بن سعد ومحمد بن الاشعث وأخاه قيساً كانوا قد فروا من الكوفة عندما دخلها المختار ودعا للانتقام من قتلة الحسين عليه السلام، لكنهم عادوا بعد ان بلغهم محاصرة الناس للمختار، فكان ان دفعوا بانفسهم الى حتفهم.
لم تكن هذه نهاية المطاف للمختار في الكوفة، فهو بعد لم ينته من أمر الزبيريين الطامحين للهيمنة على الأمة بأسرها، وكان ابن الزبير يوهم نفسه بانه الأجدر بالخلافة من غيره. وفيما كان يحاول المختار توطيد دعائم حكمه في العراق وايضاً مناطق من ايران، كان ابن الزبير يحرص على تطويق سلطانه، بل يعده العدو الأول قبل الامويين في الشام، ويذكر التاريخ مكاتبات بين المختار وابن الزبير كانت تشوبها الشكوك والظنون، حتى حانت لحظة انطلاق الشرارة عندما ارسل المختار قوة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل الى ابن الزبير بحجة مساندته أمام هجمات الجيش الاموي حيث كان حينها عبد الملك بن مروان على سدة الحكم، لكن المهمة الحقيقية لها كان الهجوم على المدينة وانتزاعها من ابن الزبير، وهذا ما اكتشفه الاخير، فعبأ قواه وجندها، وبالقرب من المدينة نفد ما كان عندهم من المؤن فاضطروا لطلب المساعدة من الزبيريين فأمدوهم بالمؤن والاغنام وانصرف جماعة من الجند الى ذبح الاغنام وسلخها تاركين اسلحتهم، فانتهز القائد الزبيري الفرصة وأنقضّ على جند المختار وأوسع فيهم قتلاً وتشريداً، واعقب ابن الزبير هذا النصر بخطوة أخرى لتشديد الخناق على المختار، بان بعث اخاه مصعبا الى البصرة ليثبت دعائمه هناك، وتكون منطلقاً لقتال المختار، وهذا ما حصل بنجاح للزبيريين، فقد هادنوا الخوارج بعد ان كانوا يقاتلونهم كما جمعوا معارضي المختار من الكوفيين الهاربين فتكون جيش جرار اتجه الى الكوفة بقيادة المهلب بن أبي صفرة الذي زحف نحو الكوفة، وبعد كر وفر بين الجانبين وبعد ان أحس الكوفيون ان المعركة تسير لصالح الزبيريين أخذوا يتسللون الى معسكر ابن الزبير الواحد تلو الآخر يطلبون منهم الأمان! فيما فضل الاخرون من العرب – كما جاء في (الانتفاضات الشيعية)- اللجوء الى نسائهم في البيوت ليبقى المختار وحيداً مع بضعة من اصحابه محاصراً داخل قصر الامارة، وحسب بعض المؤرخين فان الكوفة آنذاك شهدت حرب شوارع لمدة اربعة أشهر بين الجانبين، وعندما تقدم مصعب بن الزبير نحو القصر واصبح بجواره ندب المختار اصحابه وقال لهم: ان الحصار لا يزيدكم الا ضعفاً فانزلوا بنا حتى نموت كراماً... فامتنعوا عن الخروج معه، واخيراً خرج ومعه سبعة عشر رجلاً لا غير ومضى يضرب بسيفه حتى قتل وكان مصرعه في الرابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة 67هـ، وبذلك يكون المختار قد دفع حياته ثمناً لاهدافه التي لم تتحقق في الكوفة، لكن يكفيه الترحم عليه من الأئمة الاطهار من الامام السجّاد والباقر والصادق عليهم السلام، وجاء عنهم بانه ادخل السرور على أهل البيت عليهم السلام وعلى الهاشميين بأخذه الثأر من قتلة الامام الحسين عليه السلام. وتبقى ثمة دروس وعبر من التحرك السياسي للمختار واسلوبه الخاص لمواجهة الحكم الاموي وتقويضه وإقامة البديل الاسلامي محله.