قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
في ذكرى استشهاده ..
(الرضا) بالقضاء الإلهي وتجربة الحكم الناجحة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *علي آل غراش
حصلت في التاريخ الاسلامي تجربة رائدة لشخصية دينية بارزة تقلّدت منصب قيادي رفيع جدا في نظام حكم لإحدى الدول الكبرى، إنها شخصية تعاملت مع النظام الحاكم بشروط ليس حبا في المنصب والرئاسة وخدمة هذا النظام أو تحقيق مآرب شخصية، إنما لأجل كشف حقيقة النظام المتستر بالدين وتقديم درس في فنون الادارة و السياسة .
* شخصية الإمام الرضا
انه الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، سليل النبوة وحبل الله المتين. وسيرته العطرة مليئة بالدروس والعبر في جميع المجالات، كما هو شأن جميع الأئمة المعصومين الذين كان دورهم شمولياً وجامعاً، لكن تغلب حالة على أخرى بسبب الظروف الموضوعية، فكان تقدير الإمام الثامن هو مواجهة النظام الحاكم ليس بالتصدّي والمقاومة، وإنما العكس تماماً وهو المشاركة في هذا النظام، علماً إن الإمام الرضا (عليه السلام) المولود في الحادي عشر من شهر ذي القعدة سنة 148هـ في المدينة المنورة، عاش في ظل الظلم والعدوان العباسي، وعانى من مظاهر ذلك الجور والظلم وأعظمها اعتقال والده الإمام موسى الكاظم الذي اختطف من بين أبنائه وأهل بيته من المدينة المنورة وأرسل إلى الخليفة العباسي في بغداد وتم سجنه لسنوات طويلة من عمره الشريف، حتى استشهاده في غياهب السجون.
تسلّم الإمام الرضا (عليه السلام) مهام الإمامة والولاية في ظل ظروف سياسية صعبة، ففي عهده تواصل الصراع بين الحق والباطل، بين النظام الحاكم والفاسد المتمثل في العباسيين، وبين قوى المعارضة للظلم والفساد والتي تدعوللإصلاح والعدالة المتمثلة في أهل البيت (عليهم السلام)، وتصاعدت وتيرة المعارضة للنظام، وسط بلوغ النزاع على السلطة ذروته بين ابني هارون الأمين والمأمون، وانتهى الأمر بمقتل الأمين على يد أخيه المأمون، وسيطرة المأمون على الحكم، ولكن الأخير الذي خلّف بغداد عاصمة الدولة العباسية مهزومة ومقهورة، عائداً على خراسان، لم يشعر بالراحة والاطمئنان الكامل على سلطته وعرشه، إذ كان يراقب ازدياد قوة المعارضة التي تطالب بحق آل البيت بالحكم، لذا وجد أن لا مناصّ من امتصاص الغضب، واستيعاب حالة المعارضة، فمارس أسلوبا جديدا وهو الاستقطاب والتقريب ومحاولة الاحتواء، عبر تقريب الإمام الرضا (عليه السلام).
ولم يخف عن المأمون المشاعر العدائية المتصاعدة من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) على أبيه هارون وما ألحقه من ظلم فادح بحق الامام موسى الكاظم (عليه السلام)، فيبدو انه اراد أن يظهر بمظهر آخر ومختلف عن أبيه، فاذا سجن هارون الامام الكاظم (عليه السلام) فانه يقدم كرسي الخلافة لابنه علي الرضا! وهو في ذلك يكون قد أصاب هدفين بضربة واحدة: كسب ودّ الشيعة وإسكات صوتهم المعارض، والأهم من ذلك إضفاء الشرعية على نظام حكمه، وهي الحلقة المفقودة دائماً في تاريخ الحكام الظلمة وقاتلة الطغاة والمستبدين.
وفي ظروف صعبة بينها التاريخ وافق الامام (عليه السلام) مكرهاً على عرض المأمون بمنصب ولاية العهد في الدولة العباسية وعاصمتها خراسان، وقد عبر عن الإمام عن ذلك بدعائه لله: (اَللّهُمَّ اِنَّكَ تَعْلَمُ اَنّي مُكْرَهٌ مُضْطَرٌّ، فَلا تُؤاخِذْني، كما لَمْ تُؤاخِذْ عَبْدَكَ وَ نَبِيَّكَ يُوسُفَ حينَ وَقَعَ إلى وِلايَةِ مِصْر)، وكان الامام قد رفض العرض لعدة مرات وبشدة، ولكن المأمون العباسي أصرّ بشدة أكثر على قبول الإمام الرضا، لأن مجرد التراجع أمام موقف الإمام يشكل ضربة مدوية لجدار الشرعية العباسية في خراسان، لذا هدد الإمام الرضا بالقتل صراحةً في إحدى رسائله التي كانت تتوالى بين المدينة وخراسان، فما كان من الإمام (عليه السلام) إلا أن يستجيب للقدر الإلهي صابراً محتسباً، فقبل العرض بولاية العهد لكن بشروط، تشكل لنا دروساً في السياسة، ومنها كما جاء على لسان الإمام الرضا: (أنني لا آمر و لا أنهى و لاأفتي و لا أقضي و لا أولي و لا أعزل و لا أغير شيئا مما هو قائم فأجابه المأمون إلى ذلك كله).
*ممارسة الحكم بشروط رسالية
والسؤال هنا: لماذا لم يوافق الإمام الرضا (عليه السلام) على ولاية العهد إلا بشروط محددة؟
قطعاً هناك أسباب كثيرة لدى الإمام الرضا (عليه السلام)، و بالتأكيد منها عدم إعطاء الشرعية للنظام الدكتاتوري الظالم، وعدم السماح له باستغلال وجوده وتحميله أية مسؤولية في الحكومة الظالمة والفاسدة، والعمل على إرساء العدل، وعن ذلك يقول الإمام الرضا: (اللّهُمَّ لا عَهْدَ اِلاّ عَهْدُكَ وَ لا وِلايَةَ اِلاّ مِنْ قِبَلِكَ، فَوَفِّقْني لإقامَةِ دينِكَ وَاِحْياءِ سُنَّةِ نَبِيِّك، فَاِنَّكَ اَنْتَ المَوْلى وَ النَّصيرُ، وَنِعْمَ المَوْلى اَنْتَ وَ نِعْمَ النَّصير).
أراد الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) من خلال ذلك أن يقدم درساً بليغاً لنا وبالذات للقيادات الشعبية القادمة ومنها الدينية بعدم شرعية وصحة الدخول ومساعدة الحكومات الدكتاتورية الظالمة إلا بالإضطرار، مع الاشتراط بعدم القبول بالظلم مهما كانت التبريرات، ولو كان ذلك عبر مناصب صغيرة كانت أم كبيرة، وان كان الشخص يملك الكفاءة، لان الحاكم غير العادل الذي يصل لكرسي الحكم بشكل غير شرعي وغير ديمقراطي، وبدون تأييد الرعية، لايمكن الاطمئنان على أدائه وسلوكه في التعامل مع المجتمع، لأنه وبعد استتباب الأمر اليه سيستغل أي شخصية بما يخدم أهدافه ومصالحه، والحالة الوحيدة في التعامل تكون في حالة الإكراه والاضطرار والتعرّض للأذى، وبشرط عدم خوض الظلم والمشاركة فيه، والعمل على رفع الأذى عن المظلومين.
وهذا لا يعني عدم إمكانية العمل مع الحكومات القائمة في المواقع التي تخدم الشعب، فهناك حالات تستدعي العمل مع الحكومات بشرط عدم ارتكاب الظلم، وتلك الحالات تعتمد على الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.
وعلى المواطن مهما كان دينه ومذهبه وفكره، ومهما كان منصبه خارج الحكومة أو داخلها، أن يكون أداة تأثير بشكل ايجابي لخدمة عامة الناس والدفاع عن مصالح المظلومين والمستضعفين من فساد وظلم النظام، لا أن يكون أداة و وسيلة بيد النظام ضد حقوق المظلومين.
إن الأئمة المعصومين ومنهم الإمام الرضا (عليهم السلام) يدعون الناس وبالخصوص شيعتهم ومحبيهم أن يكونوا دعاة إصلاح بأعمالهم لا بأقوالهم فقط، وبضرورة الدخول والإسهام بالعمل مع الحكومات في ظل أجواء سليمة وحسب الأحكام الإلهية، وبما يتفق مع إرادة الناس ويحقق لهم الخير والتقدم.
وفيما نحن نحيي ذكرى وفاة الإمام الرضا (عليه السلام) الذي استشهد مسموما في أواخر شهر صفر الخير من سنة 203هـ على يد المأمون العباسي. نرجو الاستفادة من تجربته الرائدة في التعامل مع النظام الحاكم بما يتوافق مع المبدأ ومساندة العدالة والإصلاح، والدفاع عن المظلومين وتعرية النظام الفاسد، بل إن هذا التوجه الذكي الحصيف من الإمام (عليه السلام)، هو الذي دفع المأمون رغم ما يذكره التاريخ لنا عن حنكته ودهائه، الى أن يميط اللثام بنفسه عن وجهه الحقيقي غير ذلك الذي يدعيه بحبه للتشيع وللأئمة الأطهار، وأصدر أمره بدسّ السمّ الى طعام الإمام بدم بارد وكان الى جانبه في قصر واحد، فقضى (عليه السلام) شهيداً مظلوماً غريباً، لكن تلك الغربة لم تدم طويلاً، إذ نلاحظ ويلاحظ العالم كيف أن الملايين تزحف اليه من كل مكان من العالم، ليحقّ الله الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.
ــــــــــــــ
* كاتب من السعودية