قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
(تاريخ المراقد) في جزئه السادس..
معالم تاريخية ناطقة بلسان التعددية المذهبية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة د. نضير الخزرجي
لا ينفك المرء عن تاريخه كفرد وكأسرة، لان الحاضر هو من تراكمات الماضي، والمستقبل من تفاعلات الحاضر، وهذه سلسلة حياتية جبل عليها البشر منذ أبي بشريتنا الحاضرة آدم عليه السلام وحتى انتهاء حياتنا الدنيا، والقائل خلاف ذلك إنما يغالط نفسه، صحيح أن المرء (من قال ها أنا ذا) وليس القائل (قد كان أبي)، ولكن التأثير قائم في المرء عن أجداده ومستمر في أحفاده.
والأمة حالها حال الفرد لا تتخلف عن ركب التأثير والتأثر في داخلها وخارجها، لأن حياة الأمم ما هي إلا صورة خارجية لمجموع حيوات الأفراد، والصورة يمكن قراءتها ورؤيتها كوحدة واحدة، وبالإمكان قراءتها كأفراد وجزئيات، والنتيجة لا تختلف لأن الإنسان الفرد إبن أمته وبيئته.
والصورة التاريخية تُقرأ عبر صفحات الكتب مرة ومرة عبر الشواهد الباقية من آثار ومشاهد ومراقد، والأخيرة أكثر وقعا على القلب وأركز ثباتا في الذاكرة، لأن العين حينئذ هي التي ترى بعين البصر، والعقل هو الذي يرى بعين البصيرة، وإذا اجتمع البصر والبصيرة تحقق في الفرد والأمة الفعل والانفعال والتفاعل وفق مستويات تحددها قابليته على التعاطي مع الحدث التاريخي بفؤاد منفتح أو قلب منغلق، ولذلك حينما نقف أمام معلم تاريخي نطيل فيه النظر ونمعن في تفاصيله وجزئياته علنا نكتشف ما غاب عن غيرنا رغم أن المعلم قائم للقاصي والداني، للقريب والغريب.
من هذه الكوة تأتي أهمية المراقد والمشاهد والمقامات والمعالم التاريخية المتوزعة في بقاع الأرض، فهي تاريخ حي له قلب وقدم ويد وفم، يسير إذا عسعس الليل ويمشي إذا تنفس وجه الصبح، ومن هنا تأتي أهمية الجهد الذي يبذله البحاثة الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي وهو يميط اللثام عن المعالم التاريخية والشواهد القائمة المتعلقة بالنهضة الحسينية، وحينما نتنقل بين 470 صفحة من القطع الوزيري انطوى عليها الجزء السادس من (تاريخ المراقد. . الحسين وأهل بيته وأنصاره) الصادر حديثا (2011م) عن المركز الحسيني للدراسات بلندن، إنما نتحرك بين شواهد شامخة تذكرنا بالأجداد تجعل تراثهم كتابا مفتوحا نفرج عن أساريرنا عند منعطف ونذرف دمعة عند أخرى، ونحن في الحالتين نستلهم العِبرة والعَبرة.
عمارة وتعددية مذهبية
ان الهندسة المعمارية ثقافة قبل أن تكون عمارة وبناء، لأن البناء يعكس في بعض جوانبه ثقافة القرية أو البلدة أو المدينة، وفي كثير من الأحيان تعبر العمارة عن عقيدة الوضع القائم من سلطة ومجتمع، فهناك تداخل كبير بينهما، وبخاصة في المنشآت ذات العلاقة المجتمعية، ولذلك تعد الآثار التاريخية بوصلة يستطيع علماء الآثار من خلالها التعرف على مسيرة الأمة ضمن حركة دورة الحياة.
ومن خلال تتبع المقامات والمشاهد والمراقد التي تركها الركب الحسيني خلال مسيرة الأسر عام 61هـ انطلاقا من كربلاء نحو الكوفة ومنها إلى دمشق وبالعودة إلى كربلاء ومنها إلى المدينة المنورة، والتي تابعها البحاثة الكرباسي بعين المحقق الثاقب نلحظ مثل هذا التنوع المذهبي الذي شهدته هذه المدينة الإسلامية أو تلك خلال القرون الأربعة عشر، بل أن العقيدة تدخل في نوعية الهندسة البنائية وليس في نقوش ورسوم وخطوط فحسب، فعلى سبيل المثال فإن القبة الحسينية في كربلاء فتح لها عام 1297هـ سادنها السيد جواد بن حسن بن سلمان آل طعمة الذي تولى السدانة في الفترة (1292- 1309هـ) اثني عشر شباكاً للتهوية وذلك تيمنا بالأئمة الإثني عشر الذين قال فيهم النبي الأكرم محمد: (إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش).
ومن قبة الإمام الحسين (ع) في كربلاء ننتقل إلى قبة مقام رأس الحسين في المسجد الأموي بدمشق حيث فتح منه ثمانية شبابيك للتهوية والاستنارة تخللها من الداخل الأسماء الاتية: الله، محمد، أبو بكر، عمر، عثمان، علي، حسن، حسين. وعلى بعد أمتار من هذه القبة تقع (قبة النسر) القائمة فوق دكة أسارى أهل البيت عليهم السلام في المسجد الأموي بدمشق حيث يمكن من الداخل مشاهدة ثماني دوائر متساوية الأحجام متوازية الأبعاد كتب فيها بالخط الأسود الأسماء الثمانية نفسها.
وفي مدينة حلب بسوريا حيث مشهد رأس الحسين نجد فوق المشبك الفلزي (الضريح) قطعاً حزامية وضعت في أطر ذات قاعدة إحداها حمراء وأخرى زرقاء بلغ عددها أربعة عشر بعدد المعصومين الأربعة عشر: النبي الأكرم محمد (ص) وبضعته فاطمة الزهراء والأئمة الاثنا عشر(ع).
وعند تجديد بناء المشهد الحسيني نفسه في حلب تم إعادة وضع (الكتيبة الغازية) التي تعود إلى عام 596 للهجرة والتي نصبها ملك حلب غازي بن يوسف الأيوبي (568- 613هـ) عند تعميره المشهد وجاء فيها: (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم ورضي الله عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين).
وفي أواخر القرن العاشر الهجري أعيد للمشهد الحسيني بحلب ما كان على عهد سيف الدولة علي بن عبد الله الحمداني (303- 356هـ) حيث كتب على جانبي المدخل أسماء خلفاء النبي محمد (ص) وجاء النص من اليمين كالآتي: (بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلى على محمد النبي وعلي الوصي والحسن المسموم والحسين الشهيد المظلوم وعلي زين العابدين ومحمد الباقر علم الدين وجعفر الصادق والأمين)، ومن اليسار الاتي: (وموسى الكاظم الوفي وعلي الطاهر الرضا، ومحمد البر التقي، وعلي الهادي النقي، والحسن العسكري، وصاحب الزمان الحجة المهدي..)، ومازالت الكتيبة قائمة حتى يومنا هذا.
شواهد تتنفس
ما يميز المحقق الكرباسي أنّ كتاباته غير منقطعة عن التجديد والتحديث إذا ما بان له معلومة جديدة، وهذه قيمة العمل الموسوعي وميزته، بل يكاد لا يخلو كتاب من أجزاء الموسوعة الأربعة والستين التي صدرت حتى اليوم من مستدركات، فالأداء المعرفي المتين لا يكمن في التأليف فحسب بل في قدرة المؤلف على سد الثغرات المعرفية والفجوات المعلوماتية، وهذا ما نجده في هذا الجزء من مستدركات على الأجزاء السابقة من باب (تاريخ المراقد)، فضلا عن جداول الخطأ والصواب للأجزاء الخمسة الماضية.
ومثل هذا الجهد المعرفي المتميز هو الذي يجعل الأب فايز لوقا زعيم الأقباط في الأراضي المقدسة بفلسطين المحتلة يثني على العمل الموسوعي الفريد في المقدمة الملحقة في نهاية الكتاب والتي كتبها يوم 26/4/2010م لبيان رأيه في النهضة الحسينية ورائدها الإمام الحسين عليه السلام، ويؤكد الأب لوقا قوله: (تشرفت بعام 1980م لزيارة الأماكن المقدسة بالعراق وكم شاهدت إخلاص الناس في انتمائهم إلى الأعتاب المقدسة وتفانيهم في الإحتفالات وأخص بالذكر يوم عاشوراء ومقتل الحسين (عليه السلام)، ويضيف الأب لوقا: (وكرجل دين قبطي وقانوني أنادي بالحرية وحقوق الإنسان والمساواة وقبول الآخر والتواصل معه والإحترام المتبادل بين جميع طوائف بني البشر. ذهلت من إخلاص الأخوة الشيعة في ممارساتهم الروحية والدينية لشعائرهم في ذكرى موتاهم، والتسمية التي تنم على الإحترام والتقدير العظيم للأعتاب المقدسة، أو العتبات المقدسة - المراقد المقدسة - من قبيل مرقد الإمام الحسين عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــ
باحث وأكاديمي عراقي - لندن