قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
الاتجاه الرسالي في تفسير من هدى القرآن الكريم (القسم السادس)..
المسارات.. البحث عن المقياس بين الحق والباطل
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *السيد محمود الموسوي
جرى الحديث في الحلقات الماضية عن اتجاهين من الاتجاهات أو المجالات الرسالية في تفسير من هدى القرآن الكريم لمؤلفه سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي (حفظه الله)، وهما: المنطلقات والغايات في التفسير، وفي هذا القسم سيكون الحديث عن الاتجاه الثالث وهي: المسارات..
إن المسارات في تفسير القرآن الكريم تعبّر عن مجموع الاستراتيجيات والتكتيك والتحديات التي تقع في طريق التحرك الرسالي، و بُعد المسارات في التطبيق والممارسة هو في الحقيقة يكون بين (المنطلقات) و (الغايات)، لأن الإنسان يحدد في البدء منطلقه فيسير في سبيله نحو غايته، ولكن من ناحية موضوعية، فإن المنطلقات وتحديدها تأتي أولاً لأنها الأساس، والخطوة التي تليها هي تحديد الغايات وليس الوصول إليها، فعند تحديد الغايات والأهداف الواضحة، يسعى الإنسان إلى اختيار السبل والمسارات التي تؤدي به إلى ذلك الهدف.
*اختلاف الطرائق يدل على اختلاف النية
"قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً" (الإسراء /84)، الشاكلة مشتقة من كلمة (الشكل) ويبدو أن المعنى المناسب لهذه الكلمة بالنظر إلى أصل معناها اللغوي وسياق ذكرها هنا هو الطريقة والمذهب، أو الطبيعة أو السجية، وبتعبير آخر الملامح والصفات الباطنة للإنسان التي تتحكم في سلوكه وما ينتج عنه من أفعال ومواقف وأقوال، فيكون معنى الآية: كل شخص يعمل حسب طريقته وطبيعته، ومن ثم فإن مظهر عمله ينبئ عن مخبر ضميره ونيته، وهكذا تكون أعمال الناس تعبيرا عن طرائقهم ومذاهبهم وطبائعهم وعاداتهم، وعلينا أن نكتشفهم من خلال نياتهم، ونصبغ أعمالهم بها.
من هنا جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (ع): (والنية أفضل من العمل، ألا وإن النية هي العمل، ثم تلا قوله عز وجل: "قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ" يعني على نيته)1.
وقد تكون الأعمال متشابهة إلا أن اختلاف النيات وشخصيات العاملين وأهداف العمل يجعلها متناقضة، فالصلاة والصيام والحج قد يقوم بها المخلص فتكون معراجاً وجنة وجهاداً أكبر، وقد يقوم بها المرائي فتكون وبالاً على صاحبها، والله سبحانه وتعالى هو الحكم الذي يقضي بسلامة النية أو الغل فيها، "فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً"، وإذا كنت تحب عملا، أو تهوى طريقة أو تعودت على سلوك ومذهب فلا يعني أن كل ذلك حق، بل مقياس الحق والباطل هو الله الذي أوحي بالكتاب ليكون فرقانا، ويهدينا إلى سبل السلام، فلا تزك نفسك، ولا تجعلها مقياس الحق والباطل2.
*الضروريات الرسالية
إن موسى قدم طلبات الى الله سبحانه وتعالى وفي نفس الوقت كانت عبارة هي خطط : "قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي" بمعنى اجعل صدري واسعاً شرحاً لا أتهيب الصعاب التي قد تواجهني في الطريق، إني أعلم بأن حمل الرسالة عملية صعبة لذلك فأنا أحتاج إلى صدر يسع كل مشاكل التبليغ ويزيد، "وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي" ولعل موسى (ع) كان يرى أن فرعون يصعّد الموقف مما يدفع بموسى ، إلى التصعيد أيضاً خصوصاً وأن موسى كان مشهوراً بالغضب في الله فكان يريد أن تمشي المسائل بهدوء بدون حاجة إلى العنف، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فإنَّ موسى كان يدرك خطورة وصعوبة المسؤولية على عاتقه، فكان يريد التيسير في أموره، ورفع الثقل جراء حمله الرسالة.
هذا إذا علمنا أن الإنسان الذي يحمل هموماً كثيرة بسبب عمله لن يفلح أثناء عمله، لأنَّ الهم والإحساس بثقل العمل يثبط الإنسان عن العمل، فلذلك أراد موسى أن يزيل هموم عمله بدعائه لربّه لتيسير عمله الذي يعني الاستعداد للقيام بدور أكبر، "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي"، وكلمة اللسان هنا ربما تعبر عن الإعلام، فموسى كان يطمح إلى إعلام قوي يدخل في الأعماق، وربما هذه الفكرة مأخذوة من قوله "يَفْقَهُوا قَوْلِي" وبمعنى آخر أن موسى يطمح إلى أمرين :
الأول: قوة الإعلام الذاتية ، وهذا لا يتم إلا بمعرفة منطق الناس، كما قال الرسول (ص): (إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم). وهذه الفكرة يدل عليها قوله "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي..."
الثاني: خلق التأثير أو بمعنى آخر أنه طلب من الله أن يلهم عقولهم التفهم لرسالته، وكأن موسى يدعو لهم بالعقل : وهذا ما تدل عليه الجملة الثانية "يَفْقَهُوا قَوْلِي".3
*الصبر والاستقامة في طريق الحق
"وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ"، هذه الآية تكشف لنا طبيعة المسيرة الرسالية وأنها مليئة بالضغوط، والمشاكل، لأنها الطريق إلى الجنة التي حُفَّت بالمكاره، ويجب على كل داعية إلى الله وكل مجاهد أن يعي هذه الحقيقة حين اختار الانتماء إلى حزب الله والعمل في سبيله، ومن ثم يعدُّ نفسه لمواجهة كل التحديات والمكاره بسلاح الصبر والاستقامة.
إن الذي يتصور إن طريق الحق خالي من الأشواك يخطئ فهم الحياة وسنن التغيير. أولست تريد بناء كيان الحق على أنقاض الباطل؟ بلى؛ فأنت إذن في صراع جذري مع الباطل بكل أثقاله وامتداداته.. مع النظام الفاسد والطاغوت المتسلط، ومع الثقافة التبريرية، ومع الإعلام التخديري، ومع التربية الفاسدة، ومع العلاقات المتوترة بين الناس... وبكلمة: مع تخلف المجتمع الفاسد الذي تسعى لعلاجه، فلا بد أن تتوقع ردات الفعل المضادة، والضغوط والتحديات المتوالية والمركزة في طريقك، وحيث يحتدم الصراع ويصعد مرحلة بعد مرحلة تتضاعف التحديات والضغوط، الأمر الذي يضع الرسالي (فردا وحركة) أمام خيارين: الهزيمة أو الصمود، وخياره الأصيل هو الاستقامة، فيجب إذن أن يصبر لربه4.
*كيف يواجه الرسالي الصعوبات وماذا تعني له؟
من صفات الرساليين أنهم لا تكسرهم الأزمات، ولا ينهزمون أمام الصعوبات مهما كانت، فهم يعرفون بأن ذلك كله من طبيعة طريقهم (ذي الشوكة) فكلما رأوا المصاعب تتزاحم في طريقهم كلما ازدادوا يقينا بصحة طريقهم، وتسليما لربهم وقيادتهم، ولعل المؤمن يبحث عن ساعة حرجة يجرب فيها نفسه و إيمانه و إرادته ومن ثم يظهر فيها كفاءاته الرسالية الحقيقية لوجه الله "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ" لم ينهزموا كما فعل المنافقون، بل ازدادوا يقينا بخطهم "قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ".
ومن هذا نستفيد أن التربية الرسالية السليمة هي التي تصارح الإنسان بطبيعة المسيرة، وأنها محفوفة بالمخاطر على صعيد الدنيا، مما يساعد الفرد على الاستقامة حين الأزمات والمصاعب، لأنها حينذاك لن تكون مفاجئة له، بل سيعدّها أمرا طبيعيا وقد استعد لها فهي مما تزيده تثبيتا على طريقه، لهذا كان المؤمنون يزدادون إصرارا على مواصلة الدرب برغم الواقع الصعب حيث كان العدو قد جمع لهم، وجاء لحربهم بكل قوته، وبرغم الحرب النفسية التي كان يشنها المنافقون ضدهم. وحين يرى المؤمنون الصعوبات والأزمات وقد وعدهم الله ورسوله بها يتيقنون بالفرج لأنهم وعدوا به أيضا، وتحقق الوعد الأول يدل على تحقق الآخر "قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ" ردا على المنافقين، وإخمادا لأهواء النفس.
إن أعظم عامل للصمود في الظروف الصعبة التنبؤ بها، والاستعداد النفسي مسبقا لمواجهتها، وها هم المؤمنون في هذا المستوى، وكما النار تفتتن الذهب، وكما المبرد يلمع زبر الحديد، كذلك مواجهة المشاكل، تستخرج معدن المؤمن الصافي، وتجلي نفسه من أدرانها، هكذا زادت الحرب مع الأحزاب إيمانهم وتسليمهم "وَمَا زَادَهُمْ" تجمع الأحزاب، وتخذيل المنافقين وتوهينهم "إِلَّا إِيمَاناً" بالله، ورسالاته، والصراط المستقيم الذي هم عليه "وَتَسْلِيماً" لربهم وقيادتهم، وحينما ندرس حياة الشعوب نجدها نوعين: فبعضها حينما يتعرض للضغوط والتحديات ينهار، والبعض الآخر على العكس تماماً يزداد قوة وثباتاً وتحدياً، ويعود هذا الاختلاف لنوعية الثقافة التي يؤمن بها ويمارسها كلا النوعين . فبينما يمارس النوع الأول ثقافة التخاذل، يمارس النوع الثاني ثقافة التحدي، والمؤمنون الحقيقيون هم الذين يتمسكون بثقافة التحدي، فإذا بهم كلما تراكمت العقبات والمشاكل أمامهم كلما فجروا طاقاتهم، وسدوا ثغراتهم، واستعدوا لمواجهتها، كما إنهم عند المصاعب يكتشفون أنفسهم، والطاقات التي أودعها الله فيهم، ويستثمرون كل ذلك في سبيل الانتصار على الأزمات والتحديات"5.
*هامش:
1 / الكافي: ج2، ص 16
2 / من هدى القرآن، ج4، ص 479
3 / نفسه، ج5 ـ ص 199
4 / نفسه، ج11 ـ ص 346
5 / نفسه، ج7 ـ ص186