قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

منصور النمري.. صدح بالحق فدفع ثمنه في قبره
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *هادي الشمري
دراسة الادب الشيعي تقتضي الوقوف على الكثير من القضايا المهمة التي عالجها كونها من صميم الاعتقاد بأحقية أهل البيت عليهم السلام، فهذا الادب العظيم الذي افرزته مظلومية الائمة عليهم السلام وبخاصة الامام الحسين عليه السلام فقد نشأ وتكون في عصور سادتها السياسات المستبدة الظالمة التي كانت تضرب بيد من حديد على كل من يتناول قضية أهل البيت عليهم السلام في شعره، فحاربت هذا الادب ومارست كل الاساليب لانحساره والحد منه كما لعب مؤرخو السلطة وكتابها دورا كبيرا في اخفاء الكثير منه وضياعه. ويدلك على ذلك ما اختفى من الشعر الكثير في حق اهل البيت عليهم السلام من دواوين الشعراء امثال السيد الحميري ودعبل الخزاعي وديك الجن الحمصي وابو العباس الصولي وغيرهم، ولكن كل تلك الاساليب القمعية والتضليلية لم تستطع اسكات هذا الصوت الذي استمد من احقية قضية اهل البيت عليهم السلام قوته وديمومته ورغم ما لقي الشعراء الذين ساروا على هذا النهج ما لا يحصره الوصف من قتل وتمثيل وتنكيل ومطاردة إلا انه لم يخلُ عصر من العصور من اصوات تصدح بالولاء للعترة الطاهرة وتندد بالظالمين. ولنا ان نسأل التاريخ كيف قضى الكميت عمره وهو مطارد من قبل الامويين حتى اغتالته اياديهم القذرة وكذلك دعبل الخزاعي الذي لم يسلم من القتل على يد جلاوزة العباسيين رغم بلوغه الثامنة والتسعين عاما!
وكان من شعراء أهل البيت عليهم السلام من لم يسلم من ايدي هذه السلطات حتى بعد موته فـ (تتبعوه رميما) كما حدث للشاعر منصور النمري الذي أمر الرشيد بقطع لسانه وقتله وقطع رأسه عندما سمع له قصيدته اللامية في مدح أهل البيت عليهم السلام، فلما جاء ابو عصمة ـ احد قوّاد الرشيد ـ الى الرقة وفيها بيت النمري لتنفيذ الامر رأى جنازته خارجة من بيته فعاد الى الرشيد فاخبره بوفاته ولكن حقد الرشيد لن يزول من صدره إلا بمعاقبة النمري حتى بعد موته فقال لابي عصمة: فإلا إذ صادفته ميتاً احرقته بالنار!..
قال ابن شهر آشوب في المناقب: انهم نبشوا قبره!! فتحقق قول النمري:
آل النبي ومن يحبهم
يتطامنون مخافة القتلِ
أمنوا النصارى واليهود وهم
من أمة التوحيد في أزلِ
على الرغم من ان الاخبار القليلة جدا التي وردت في بطون الكتب عن شاعرنا النمري لا تكفي لتسليط الضوء على حياته ونشأته إلا ان اشعاره تكشف بوضوح عن شخصيته وايمانه بعقيدته وولائه لأهل البيت عليهم السلام فلم يهمل المؤرخون سنة ولادته فقط بل انهم اختلفوا في سنة وفاته ونسبه وكنيته!! فهو (ابو القاسم) أو (ابو الفضل). منصور بن الزبرقان بن سلمة (أو) بن سلمة بن الزبرقان بن شريك بن مطعم الكبش الرخم بن مالك النمري من النمر بن قاسط ولد في مدينة (رأس العين) على شاطئ الفرات وكان في بداية حياته تلميذا لكلثوم بن عمرو العتابي وراويته. اخذ عنه وقلده في مذهبه وكانت صحبتهما وثيقة تجاوزت حدود التلمذة بعد ان لمس العتابي في النمري توقد ذهن ورهافة حس وذكاء وفطنة فهيأ له متطلبات السفر من الشام الى بغداد ووصفه للفضل بن يحيى البرمكي الذي استقدمه واجزل له.
وعند الفضل اجتمع النمري بالشاعر مسلم بن الوليد و روى السيد المرتضى في (اماليه) عن المرزباني ان سفره الى بغداد كان مع الوفد الذي ارسلته ربيعة الى الرشيد بعد ان اوقع (عصمة) بأهل ديار بكر موقعة فظيعة يذكرها التاريخ، فلما صاروا بباب الرشيد امرهم باختيار من يدخل عليهم فخلص اختيارهم الى رجلين احدهما شاعرنا بعد ان وجدوه متكلما اديبا لبيبا فلما سألهما الرشيد حاجتهما انشد النمري قصيدة مطلعها:
ما تنقضي حسرة ولاجزع
اذا ذكرت شباباً ليس يرتجع
والقصيدة عبارة عن شكوى وعتاب وتذمر من الدهر حتى اذا انتهى النمري من قصيدته قال له الرشيد: ويحك... قل حاجتك فقال: اخربت الديار واخذت الاموال وهتكت الحرم فقال: اكتبوا له بكل ما يريد ولما وجده الرشيد فصيحا شاعرا استبقاه عنده واشخص اصحابه بالكتب. قال السيد المرتضى: وكان منصور النمري يأتي بأسم هارون الرشيد في شعره ومراده به صاحب منزلة هارون يعني امير المؤمنين عليه السلام وكذلك قال المرزباني وابن دريد ورويا للنمري قوله:
آل الرسول خيار الناس كلهم
وخير آل رسول الله هارونُ
رضيت حكمك لا ابغي به بدلاً
لان حكمك بالتوفيق مقرونُ
وقال الجاحظ: كان منصور النمري ينافق الرشيد ويذكر هارون في شعره ويريه انه من وجوه شيعته وباطنه ومراده بذلك امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام لقول النبي صلى الله عليه وآله (انت مني بمنزلة هارون من موسى) الى ان وشى عنده بعض اصحابه وانشد له قصيدته اللامية فوجه الرشيد رجل منه فزارة.. وتتمة القصة كما ذكرناها في المقدمة. وفي الحقيقة فقد ظلم الجاحظ شاعرنا النمري عندما نسب اليه النفاق فلم يكن شاعرنا منافقا بل كان يعمل بالتقية فيوري في مدح هارون بعلي قال السيد حسن الصدر في (تأسيس الشيعة) والسيد ضياء الدين في (نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر) عن جماعة انه ـ اي النمري ـ كان يوري في مدح هارون العباسي بعلي عليه السلام تلميحاً منه الى الحديث المشهور (انت مني بمنزلة هارون من موسى) ثم ذكراً له البيتين ومما يدل على فصاحته وشاعريته وما رواه المرتضى في (اماليه) والاصفهاني في (الاغاني) و (المبرد) في (الكامل في اللغة الادب) وغيرهم من اجتماعه عند الرشيد بمروان بن ابي حفصة شاعر الرشيد في خبر طويل انتهى باعتراف مروان بشاعريته عليه بقوله: (فاذا هو والله افصح الناس قد دخلني له حسد فوددت له قد اخذ كل ما لدي وسكت). كما اعترف بان النمري كان خليقاً بان يغلبه ويعلو عليه كما جاء على لسانه: (واخلق به ان يغلبني وان يعلو علي فأني ما رأيت احسن من تخلصه اذا ذكر الطالبيين). اما قصيدته اللامية التي كانت السبب في اثارة غضب الرشيد عليه ونبش قبره فقد ذكرها أرباب السير ومطلعها:
شاعرٌ من الناس راتعٌ هاملِ
يعللون من النفوس بالباطلِ
تقتل ذرية النبي ويرجون جنان الخلود للقاتلِ
ويلك يا قاتل الحسين لقد
بؤت بحمل ينوء بالحاملِ
أي حباءٍ حبوت احمدٍ في
حفرته من حرارة الثاكلِ
بأي وجه نلقى النبي وقد
دخلت في قتله مع الداخلِ
ويصدح فيها بولائه الخالص لأهل البيت عليهم السلام وإعلان مظلوميتهم:
نفسي فداء الحسين حين غدا
الى المنايا غدوّ لا قافلِ
ذلك يوم انحى بشفرته
على سنام الاسلام والكاهلِ
اعاذ لي انني احب بني
أحمد فالترب في فم العاذلِ
جفوتم عترة النبي وما الجافي لآل النبي كالواصلِ
مظلومةٌ والنبي والدها
تُدير أرجاء مُقلة حافلِ
ثم يعرض بالظُلمة ويستنفر ضد العباسيين:
ألا مصاليت يغضبون لها
بسلة البيض والقنا الذابلِ
وهذا البيت تصريح واضح بالثورة والانتصار للمظلوم. وله لامية اخرى لايقل وقعها عن الاولى افرغ فيها النمري ما في قلبه من لوعة وأسى على مصاب الامام الحسين والحوادث التي جرت عليه يوم الطف ومظلومية الائمة مطلعها:
متى يشفيك دمعك من همولِ
ويبرد ما بقلبك من غليلِ
ألا يا رب ذي حزنٍ تعايا
بصبر فاستراح الى العويلِ
قتيل ما قتيل بني زيادٍ
ألا بأبي وامي من قتيلِ
ولا يخلو قلبه من الهم والحزن على ذلك المصاب الاليم:
أيخلو قلب ذي ورعٍ ودين
من الاحزان والهم الطويلِ
وقد شرقت رماح بني زيادٍ
بريٍ من دماء بني الرسولِ
ألم يُحزنك سرب من نساءٍ
لآل محمد خُمش الذيولِ
يشققن الجيوب على حسين
أيامى قد خلون من البعولِ
بتربة كربلاء لهم ديار
ينام الاهل دارسة الطلول
وينهي قصيدته الطويلة بما تهيج في نفسه فيعبر عنه في خاتمة القصيدة:
برئنا يارسول الله ممن
اصابك بالاذاة وبالذحولِ
ألا ياليتني وصلت يميني
هناك بقائم السيف الصقيلِ
نجدت على السيوف بحر وجهي
ولم اخذل بنيك مع الخذولِ
توفي شاعرنا عام 193 هـ على اشهر الاقوال.