قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
غزوة (أحد) في ذكراها...
نزوة طمع تُحيل النصر العظيم هزيمةً
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *علي جواد
الشعوب المتقدمة والأمم الناهضة لا تقتصر فقط على الاحتفاء بعظمائها والتبجيل بانتصاراتها ومكاسبها لأن كل ذلك من التاريخ الماضي، إنما التقدم والنجاح يتحقق بالتجارب والعبر ودراسة التاريخ لاكتشاف الثغرات التي خلقت الانتكاسات والهزائم، كما تفيد الدراسة في تبيين عوامل النجاح والانتصار، وهو ما يشحذ الهمم ويدفع للمزيد من الثقة بالنفس والعزيمة على المضي نحو الامام. و معركة (أحد) التي تمر ذكراها هذه الايام تعد واحدة من العبر والتجارب التاريخية للأمة الاسلامية تتخذها درساً في مسيرتها الحضارية، لا ان تكون نقطة سلبية تغض الطرف عنها، فيما تتباهى وتستذكر دائماً النقطة المضيئة والنصر العظيم في معركة (بدر).
المشركون. . الهروب من عار الهزيمة
ان الهزيمة المنكرة التي لحقت بالمشركين في (بدر) على يد أول جيش في الاسلام، ترك جرحاً غائراً في نفوس كفار قريش والمنافقين واليهود وكل من ناصب العداء وكان يشعر بتهديد مصالحه مع بزوغ فجر الدعوة الاسلامية، لذا لم يمر عليهم يوم إلا وهم يخططون ويدبرون المكائد للتخلص من هذا العار العظيم الذي لحق بهم، والانتقام من قتلاهم، لاسيما وان المسلمين قضوا على عدد كبير من رؤوس الشرك امثال ابو جهل وشيبة وعتبة وغيرهم.
تقول المصادر التاريخية ان قريش وفي اول بادرة للتعبئة النفسية للحرب الانتقامية، احتبست العير التي كانت السبب في اندلاع معركة (بدر) في دار الندوة كانت عبارة عن ألف بعير مع حمولتها، فمشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم من الذين صرع ابناؤهم وآباؤهم في (بدر) الى أبي سفيان ومن كان لهم سهم في تلك الاموال، فقالوا: يا معشر قريش...! ان محمداً وتركم وقتل خياركم فاعينونا على حربه لعلنا ندرك فيه ثأرنا بمن أصاب منّا ونحن طيبو النفس، وانا نريد ان نجهز جيشاً بربح هذا المال... وبالفعل تم بيع الحمولة فصارت خمسين الف دينار ذهب، فاخذوا الربح وهو خمس وعشرين الف وردوا رأس المال، وقد نزلت الآية الكريمة في هذه الواقعة: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ" (الأنفال /36).
وهكذا بدأت الاستعدادات في مكة من الناحية اللوجستية والاعلامية ايضاً لحث القبائل العربية على حرب النبي الاكرم والاسلام، وكان من الخطوات الواضحة التعبئة الاعلامية من خلال الشعر الذي كان آنذاك يشكل ابرز وسيلة اعلامية مؤثرة لتحشيد الجماهير وتحريك المشاعر وتغيير المواقف، وقد عبئت قريش عدداً كبيراً من الشعراء الجاهليين المرتزقة الذين يتقنون المديح والاطراء لقاء حفنة من الدراهم، وكان بينهم شخصٌ يدعى (ابو غرة الجحي) الذي أسر في (بدر) فاستغاث بالنبي الاكرم فمنّ عليه واطلق سراحه بعد ان اشترط عليه أن لايعين أحداً ولا يشترك في حرب ضد المسلمين، فاقنعه المشركون وغرروا به، وجاء في التاريخ انه وقع في الاسر في (أحد) فامر النبي أن يقتل ولم يقبل استغاثته، حيث قال: (لايلدغ المؤمن من جحره مرتين... قد مننا عليك من قبل وأخذنا منك عهداً ان لاتعين احداً علينا ولم تف بما عاهدت عليه ولا ندعك اليوم ترجع الى مكة تمسح عارضيك وتقول: سخرت بمحمد مرتين).
النبي الاكرم يفرض الأمن في المدينة
بالرغم من عهود الموادعة التي أمضاها اليهود من (بني قينقاع) مع المسلمين لدى دخول النبي الاكرم المدينة، إلا الانتصار الباهر في (بدر) جعل اليهود والمنافقين في المدينة يشعرون بخطر لا يقل عن الخطر والخوف الذي اخترق قلوب مشركي مكة. فبدأوا يحرضون ويستفزون للنيل من النبي والاسلام، ولم تنفع معهم دعوات النبي الاكرم بالكف عما هم عليه والتزام العهود. وحدث أن تعرضت احدى النساء المسلمات للاهانة والاستهزاء على يد صاغة الذهب اليهود في المدينة، فاستغاثت بالمسلمين، فوثب رجل من المسلمين وقتل اليهودي الصائغ الذي كان السبب في كشف حجاب المرأة المسلمة، ثم شدّ اليهود على المسلم فقتلوه، وهكذا انطلقت اول شرارة للفتنة بين الجانبين، لكن النبي الاكرم حاول معهم باللين في محاولة منه صلى الله عليه وآله أن لا يفتح جبهة على المسلمين هم في غنىّ عنها وأمامهم الموتورين من مشركي قريش في مكة، لكن صبر وحكمة النبي الاكرم خلق شعوراً خاطئاً لدى اليهود بانه يهابهم ويخاف منهم، حتى سمعهم يقولون: (والله لأن حاربنا محمد ليعلمن أنا نحن الناس وسيرى وسيرى منّا ما لم يره من غيرنا). هذا الرد المتعجرف اضطر النبي صلى الله عليه وآله لأن يخرج الى احياء اليهود ومعه جموع المسلمين. هنا اتضح جبن اليهود وبانت حقيقتهم فلم يبق احد خارج داره ولاذ الجميع بالحصون، فحاصرهم المسلمون خمسة عشر يوماً متتالية، ولما ضاقت بهم السبل لم يجدوا بداً من التسليم لقضاء النبي الاكرم صلى الله عليه وآله، وبعد استشارة اصحابه عما يفعله باليهود، قرر اخيراً إجلاءهم من المدينة.
جاء في (سيرة المصطفى) لمؤلفه السيد هاشم معروف الحسني، ان مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله والمسلمون نعموا بالأمن والاستقرار مدة شهر كامل بعد إجلاء يهود (بني قينقاع)، علماً ان الهدوء كان مشوباً بالحذر لاستمرار مشركي قريش بالتدبير والتآمر على المسلمين، وفي هذه الفترة قام المشركون بزعامة رئيس قريش (ابي سفيان) بمحاولة بائسة للنيل من المسلمين من خلال الاغارة عليهم عندما خرج بمئة راكب ليلاً وحاول كسب تأييد ودعم بني النضير، لكن ذلك لم يجده نفعاً اذ انكفأ هارباً ولم يلو على شيء بعد ان تعقبه النبي الاكرم واصحابه فيما عجّل المشركون وفي مقدمتهم ابو سفيان بالهرب حتى لاتنالهم سيوف المسلمين، وجاء في التاريخ ان المسلمين كانوا يلتقطون ما يجدونه في طريقهم من السويق الذي القاه جماعة ابو سفيان ليخففوا من حملهم لسهولة الفرار، لذا سميت هذه الغزوة بـ (غزوة السويق).
ويبدو ان التحول الكبير في كيان الدولة الاسلامية لم يرق لبعض القبائل والاعراب المتفرقين في الصحراء، فقد كان النبي الاكرم واصحابه بالامس القريب يتلمسون ملجأ يحميهم من غارات قريش وجيرانهم العرب واليهود، واليوم اصبحوا يتحدون قريش ويجلون اليهود من المدينة ويرسلون السرايا تتهدد الطرق والمسالك الى الشام ويهددون التجارة فيقتلون ويأسرون ويعرضون اقتصاد قريش ومكة بكاملها الى الخطر. تشير المصادر التاريخية ان النبي الاكرم صلى الله عليه وآله تجاوز وبكل سهولة غزوتين ناجحتين على القبائل المتمردة من الاعراب القريبين من المدينة، هي (غزوة غطفان) و (غزوة قرقرة الكدر)، ولم يفلح الاعراب بالنيل من النبي والمسلمين إلا ما قد خسروه من الاموال والماشية والنعم التي كان يغنمها المسلمون ويعودوا ضافرين في المدينة.
وقبل الحديت عن تفاصيل (أحد) لابد من الاشارة ايضاً الى نصر آخر سجله المسلمون وأضافوه الى سجل انصاراتهم بعد غزو (بدر) الضافرة والتاريخية. هذا النصر كان على يد زيد بن حارثة الذي ارسله الني الاكرم على رأس سرية من المسلمين لقطع الطريق على قافلة اخرى من قوافل قريش التجارية. وهنا حقيقة تاريخية بان قريش ومشركي مكة كانوا يعيشون ما يشبه الحصار الاقتصادي بعد هزيمتهم في (بدر) لأنهم بذلك خسروا الشريان الحيوي الذي يغذيهم بالمال العائد من التجارة بينهم وبين الشام، حتى بدأ التململ يعلو بينهم وبان خطر الضائقة الاقتصادية والمعيشية عليهم، فقوة المسلمين تتعاظم يوماً بعد آخر في المدينة ويزداد نفوذهم حتى الساحل بمعنى سيطرتهم على الطريق المؤدي بين مكة والشام. فاجمع المشركون ان يتخذوا سبيلاً جديداً لا يعرفه المسلمون وهو طريق العراق، فتجهز صفوان بن أمية بالذهب والفضة والبضائع بما قيمته مائة ألف درهم، لكن هذا الخبر والمعلومة الاستخبارية وصلت الى النبي الاكرم بفضل رجل من يثرب كان بمكة يدى (نعيم بن مسعود الاشجعي)، فارسل صلى الله عليه وآله زيد بن حارثة على رأس سرية في مائة راكب ليعترضوا القافلة، وفعلاً تحقق لهم ذلك وفرّ صفوان هارباً الى مكة يجر أذيال الخيبة والهزيمة فيما غنم المسلمين المزيد من الاموال، فقام النبي الاكرم بتقسيم الغنائم بين اصحابه.
المعركة الفاصلة
بلغ النبي الاكرم صلى الله عليه وآله استعدادات قريش العسكرية واللوجستية لخوض معركة جديدة يثأرون فيها لقتلاهم في (بدر)، فبعث النبي أنس ومؤنس ابني فضال يستطلعان له الخبر فألفيا المشركين وقد قاربوا المدينة، ثم بعث الحباب بن المنذر بن الجموح سراً، ولما عاد اخبره بحالهم وقال: انهم ثلاثة آلاف لن يزيدوا والخيل فوق المائتين، فاوصاه بان لا يخبر احداً. وبعد ان استشار النبي اصحابه بالخروج او البقاء في المدينة لملاقاة المشركين استقر رأيه على الخروج اليهم فاستخلف بن أم كلثوم ليصلي بالناس في المدينة، وعقد ثلاثة ألوية: واحدة للمهاجرين لعلي بن ابي طالب، ولواء للأوس الى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج الى الحباب بن المنذر، وقيل اعطاه الى سعد بن عبادة، وركب هو صلى الله عليه وآله فسرع ومعه حوالي ألف مقاتل من المسلمين، وفي رواية (الطبري) انه صلى الله عليه وآله جعل الزبير على الخيالة ومعه المقداد بن الأسود وخرج الحمزة بالجيش بين يديه، بينما بالمقابل خرج خالد بن الوليد ومعه عكرمة بن أبي جهل.
إن اول التحام بين الجيش الاسلامي وجيش الشرك في (أحد) سجل تفوقاً للمسلمين بعد ان انهمرت النبال على المشركين حتى جاء ان نبلة واحدة لم تسقط على ا لارض إلا وتصيب فرس مشرك او تصيبه هو في بدنه. ولم تفلح صيحات (هند) بنت عتبة بتعبئة الجند والحيلولة دون زعزعة صفوفهم بعد ان أوسعوهم المسلمون ضرباً بالسيوف الرماح والنبال، فكان مسار المعركة يشير الى صالح المسلمين، لولا تلك الواقعة المؤلمة والتاريخية التي تسببت في ضياع النصر المؤزر وتمكّن المشركين من النبي الاكرم وعمه الحمزة، فلم يبق في الساحة إلا الثلّة المؤمنة حول النبي الاكرم في مقدمتهم أمير المؤمنين عليه السلام وعمه الحمزة والزبير وآخرون ونقل ان النبي الاكرم تعرض لاصابات بليغة بعد ان تخلّى عنه جموع المسلمين وكبار القوم الذين طالما يعتدّون بانفسهم، وجاء في (الطبري) ان عثمان – مثلاً- هرب حتى
وصل (الجعلب) وهو جبل بناحية المدينة، كذلك فعل عمر وابو بكر وغيرهم. وذلك بعد إشاعة الخبر الكاذب بمقتل النبي الاكرم، حتى ان الوحي المنزل وبّخ المسلمين بموقفهم المخزي هذا في قوله تعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ" (آل عمران /144).
لقد استشهد في معركة (أحد) نحو سبعين رجلاً من المسلمين في مقدمتهم عمّ النبي الحمزة، كما تعرض النبي الاكرم وأمير المؤمنين لاصابات بليغة كل ذلك بسبب نزوة تافهة من البعض للحصول على حطام الدنيا من الغنائم، ففضلوا هذا على وصية نبيهم بالتزام مواقعهم وحماية ظهورهم من الاعداء خلال الاشتباك. طبعاً بعد ان وضعت الحرب أوزارها ظنّ المشركون ان النبي قد فارق الحياة، وكادوا ان يحتفلوا بالنصر لولا ان خاب ظنّهم وعادوا ثانية خائبين.