قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

حقيقة التوبة
*حسين الخشيمي
التوبة؛ عودة الانسان الى ربه، وأولها الندم على الذنب وديمومتها في الاستمرار عليها، ودليلها اصلاح الانسان لما افسد، واداء حقوق الاخرين، ورد المظالم، وقضاء مافاته من العبادات. ان التوبة تطهر القلب من الآفات النفسية والشيطانية، وتجلب رحمة وغفران الرب حيث يقول تبارك وتعالى: "وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (سورة الانعام /54).
فلا شك في قبول توبة العبد المؤمن اذا ما عزم عليها، ذلك لان الله تبارك وتعالى كتب على نفسه الرحمة بعباده الذين ندموا وعادوا اليه، فهو غفور رحيم، وفي نفس الوقت قوي عزيز شديد العقاب، ويصف لنا امير المؤمنين عليه السلام التوبة عندما سُئل عنها بقوله: (ندمٌ بالقلب واستغفار باللسان، والقصد على ان لا يعود). ويبين عليه السلام اهم مراحل التوبة الثلاث وهي: الندم، والاستغفار، وعدم الرجوع الى الذنب.
التوبة منطلق الحضارة
جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (توبوا الى الله، فأني اتوب الى الله في كل يوم مئة مرة). فاذا كان نبي الله الاكرم الذي خلقت السموات والارض والجنان لأجله، والذي عصمه الله عن الخطأ، وخصه بالشفاعة، يتوب في اليوم مئة مرة، اذن ماذا علينا ان نفعل نحن الخطائين؟
ان الانسان بطبيعته يميل الى هوى نفسه، لذا نراه ينفذ ويجري خلف ما تميله شهوات نفسه، حتى لو كان ما تطلبه امراً صعباً، ونحن غافلون بسبب هذه النفس عن الرصيد المتراكم من الذنوب، ولكن من آيات رحمة الله أن جعل باب التوبة مفتوحاً لنا لنعود الى الفطرة السليمة والى هدى العقل بالتوبة، فنكفّر بها عن ذنوبنا ونُمحي سيئاتنا فتعود صحيفة الانسان بيضاء ويدخل الجنة، يقول تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ" (سورة التحريم /8).
ليس هذا فحسب، بل ان التوبة تُنزل الخيرات والبركات على العباد، يقول تبارك وتعالى: "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ" (هود /52). فالمجتمع الذي اتخذ من التوبة منهاجاً في حياته، انما هو مجتمع قوي يمده الله بالخيرات والبركات والنعم الكثيرة ويسدده ويؤيده بالنصر: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (سورة محمد /7).
وبهذين العاملين - الخيرات والقوة- تبنى المجتمعات والحضارات العظيمة والقوية. ان حضارة اساسها التوبة لن تزول لانها حضارة الهية، ذات أسس رصينة وقوية، وهي ليست كالحضارات التي بنيت على اجساد الفقراء والمستضعفين، والتي سقطت في عز شبابها، كحضارة الفراعنة وغيرها من الحضارات التي كان اساسها الظلم، بينما الحضارة الالهية، هي حضارة القيم والتي يتخذ بانوها من التوبة منطلق لهم في بناء مجتمع مؤمن ينثر عليه الرب رحمته وبركاته وخيراته، فيصبح مجتمع غني، وتصبح الارض التي يسكن عليها هذا المجتمع ارضاً طيبة ذات خيرات وفيرة، والسماء تنزل قطرها على هذه الارض لان من يسكنها هم اناسٌ صالحون يتوبون الى الله اذا ما اخطئوا.
قبول التوبة
باب التوبة مفتوح دائما، فأذا اذنب العباد وتابوا قبلت توبتهم، وقد بينت الروايات الشريفة هذا الامر، حيث ورد في الرواية عن محمد بن مسلم عندما سأل الامام الصادق عليه السلام عن توبة الله على عبده في كل مرة وقد الحّ على الامام عليه السلام في الامر حتى قال له عليه السلام: (كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة وان الله غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئآت، فأيا كان تقنط المؤمنين من رحمة الله).
ولكن هذا لا يعني ان الله تبارك وتعالى يقبل التوبة في كل وقت، وفي كل زمان، بل هناك فترة زمنية محددة جعلها الله تبارك وتعالى فرصة للعباد لكي يتوبوا اليه، وان يغتنموها مازالت متاحة لهم. فقد ورد عن الامام الصادق عليه السلام عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال: (من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته، ثم قال: إن السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته، ثم قال إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته، ثم قال: إن الجمعة لكثيرة من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته، ثم قال: إن يوما لكثير من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته).
ومن كلامه صلى الله عليه وآله نستلهم البصيرة التالية :
ان الله تبارك وتعالى يقبل التوبة من العبد في اي وقت كان، ولكن،.! بشرط ان يكون قبل الموت، وقبل ان تضيع الفرصة والنبي الاكرم عندما ذكر محطات زمنية مختلفة وجزم بتوبة الله على العبد قبل سنة او شهر او يوم او قبل ان يعاين؛ انما لان الانسان لا يعلم ساعة موته ورحيله عن الدنيا، وعليه ان يعيش التوبة في كل زمان قبل ان يدركه الموت لكي يغفر له الله تبارك وتعالى ذنوبه وتشمله رحمته الواسعة.
وبعد ان تضيع فرصة التوبة، لايوجد مخرج آخر، لان الله سبحانه وتعالى جعل شرط قبول التوبة ان تكون في وقتها وهو في حياة الانسان لا بعد ان يقدم عليه ملك الموت ويرى امامه منكر ونكير، واهوال القبر وظلمته، بل عليه الاسراع الى التوبة واللجوء الى الله وحصول المغفرة يقول تبارك وتعالى: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا" (سورة النساء /17).
كيف تتحقق التوبة ؟
يجيب امير المؤمنين عليه السلام عن هذا السؤال في قوله: (ندم بالقلب واستغفار باللسان، والقصد على ان لا يعود).
يجب ان تتحقق الشروط الثلاثة الاساس للتوبة، وستة شروط فرعية اخرى تختص بالاستغفار، فأما الاساس فهي الندم بالقلب على ما اقترفه العبد من ذنب، من خلال تأنيبه لنفسه، كذلك الاستغفار باللسان، والذي يحث عليه الاسلام لكي يمحوا ما اقترف من الذنوب، فهو درجة العليين كما يصفه امير المؤمنين عليه السلام، ثم يكمل هذا العمل الاساس الثالث وهو الاهم والذي يتلخص في عدم المعاودة على اقتراف الذنب من جديد.
اما الشروط الستة الفرعية فهي تتعلق بالاستغفار. لكن ما هي حقيقة الاستغفار ؟
عن أمير المؤمنين عليه السلام ان قائلا قال بحضرته: أستغفر الله،. فقال عليه السلام: (ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار،.؟! الاستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العودة إليه أبدا، والثالث أن تؤدى إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عز وجل أملس ليس عليك تبعة، والرابع ان تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها والخامس ان تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس ان تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول: أستغفر الله).
الاستغفار عمل قبل ان يكون قول على اللسان، فانه تطبيق على ارض الواقع ليكون الانسان في درجة العليين، وهو يعتمد على ستة شروط هي :
1- الندم على ما مضى.
2- العزم على ترك العودة اليه (اتخاذ القرار بعدم الرجوع الى الذنب).
3- تأدية حقوق الآخرين، كل ما تعلق في ذمته من اموال او غيبة او حمية، وكما ورد في ادعية الامام السجاد عليه السلام (وَأَسْأَلُكَ فى مَظالِمِ عِبادِكَ عِنْدى فَاَيَّما عَبْد مِنْ عَبيدِكَ اَوْ اَمَة مِنْ اِمائِكَ كانَتْ لَهُ قِبَلى مَظْلِمَةٌ ظَلَمْتُها اِيّاهُ فى نَفْسِهِ اَوْ فى عِرْضِهِ اَوْ فى مالِهِ اَوْ فى اَهْلِهِ وَوَلَدِهِ اَوْ غيبَةٌ اغْتَبْتُهُ بِها اَوْ تَحامُلٌ عَلَيْهِ بِمَيْل اَوْ هَوىً اَوْ اَنَفَة اَوْ حَمِيَّة اَوْ رِياءاَوْ عَصَبِيَّة غائِباً كانَ اَوْ شاهِداً وَحَيّاً كانَ اَوْ مَيِّتاً).
4- اعادة مافات من الفرائض، او تأديتها بالصورة الصحيحة كما ينبغي.
5- ان يذيب اللحم الذي نبت من المال الحرام، سواء كان بصورة مباشرة بالغصب، ام من خلال الطرق الملتوية كالسحت، وغش الاخرين من اجل الحصول على المال.
6- ان يذوق ألم الطاعة والمداومة عليها كما اذاق لذة المعصية وحلاوتها الظاهرية.
على الانسان ان يصلح ما افسده، وان يعود الى سيرته الاولى لكي يكون من المستغفرين فليس الاستغفار والتوبة مجرد لقلقة لسان بل عملية اصلاح وعمل مستمر.