قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
في ذكرى ولادته العطرة
الإمام الرضا عليه السلام.. جهاد في عقر دار الحاكم
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *سعد مغيمش الشمري
ان الدارس لتاريخ ائمة اهل البيت (ع) ليشعر ان هناك عناية إلهية احاطت بتلك الشخصيات العظيمة جعلتهم في مقام الذروة من الكمال البشري، لكن هذه المنزلة الالهية والصفات والخصال الاخلاقية والانسانية لم تكن كافية عند محبي الدنيا واصحاب النفوس الضعيفة، فخلقوا العقبات والازمات بوجه الائمة (ع) بظنهم أنهم قادرون على تحجيم دورهم ومكانتهم في المجتمع، إلا ان الإرادة الالهية وشجاعة الأئمة وجهادهم، أبقى لنا تراثاً من الجهاد ومواجهة الضلال والطغيان، ومن هؤلاء الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام.
تحدي الظروف السياسية
ولد علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام في المدينة المنورة في 11 ذي العقدة سنة 148 للهجرة أما وفاته ففي اليوم الاخير من صفر سنة 203 بمدينة طوس ودفن فيها.
تسلّم مهام الإمامة في ظروف صعبة وأحداث مريرة عاش خلالها محنة والده وهو يكابد مرارة السجون والإرهاب على يد هارون الرشيد، وقد استشهد عليه السلام في إحدى زنزانات بغداد فيما كان ابنه الرضا في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله. وكان أمامنا الرضا عليه السلام قد عاش مع أبيه 35 سنة.
عاصر الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، هارون الرشيد عشر سنوات ثم ابنه الامين ثم المأمون وقد اتسمت تلك الفترة بالقسوة والظلم وممارسة أشرس أنواع التعذيب بحق ابناء البيت العلوي والمؤمنين والموالين لأهل البيت عليهم السلام، ولكن ذلك لم يمنع من خروج الثورات العلوية المتلاحقة ضد الحكم العباسي الظالم، منها ثورة محمد بن الحسن (ذو النفس الزكية) وثورة الحسين صاحب فخ و ثورة ابن طباطبا العلوي وغيرها من الثورات التي زعزعت الدولة العباسية.
هذه الاوضاع وضعت أمام المأمون الذي اعتلى كرسي الحكم على دماء أخيه الأمين، أمام الامر الواقع، و وجد ان ليس من صالحه مواصلة الاصطدام بالشيعة، وإن كان لابد فعليه ان يظفي شيئاً من المشروعية على حكمه، وهو ما لم يفعله من قبل أبوه واخوه وسائر الحكام العباسيين، لذا كانت فكرة استقدام الامام من مدينة جده رسول الله صلى الله عليه وآله، الى خراسان حيث العاصمة الجديدة للدولة العباسية، وطرح فكرة منح ولاية العهد له، وهي الخديعة التي اراد المأمون من ورائها فرض الاستقرار على ربوع خراسان وإبعاد الناس عن الالتفاف حول الامام وايجاد المبررات للثورة والانتفاضة، كون الامام الى جانب الحاكم في القصر!
واجه الإمام عليه السلام العرض بالرفض بدايةً لكن الرسائل كانت تترى عليه من المأمون يصر فيها على القبول والمجيء على خراسان، وبما ان هذه القضية كانت عند الاخير مصيرية، فقد استخدم في مراسلاته وطلبه عبارات التهديد الرخيصة، وهي المسمار الاول الذي دقه الامام عليه السلام في نعش المأمون بإظهار نواياه الحقيقية من وراء عرضه الخلافة، وهي حق مسلّم ومبدأي لأهل البيت لا يعطيه إياه أمثال المأمون أو غيره.
انقلاب السحر على الساحر
كان موقف الوداع في المدينة المنورة حرجاً وصعباً للغاية على أسرة الامام فقد وجد نفسه ماضياً الى حيث قدر له الله تعالى من المهمة الرسالية العظيمة، وهو يتركهم في رحلة لا عودة فيها، وكان من بينهم ابنه محمد الجواد، وكان ذلك سنة 200 للهجرة، وبعد غير قليل من الآهات والدموع غادر الامام الرضا عليه السلام مدينة جده محاطاً بجلاوزة المأمون وبعض أعيان المدينة صوب خراسان، ومن أوامر المأمون لقادة القافلة أن لا يمروا خلال سيرهم على المناطق ذات الاغلبية الشيعية مثل مدينة قم وغيرها، لئلا يعرف الناس أمر الامام سلفاً، لكن مع ذلك كان الناس يخرجون لاستقباله و اللقاء به والسماع من احاديثه، وهو ما حصل فعلاً، فقد التقى الامام بمحبيه ومواليه خلال مسيرته الطويلة، وقد توّجت هذه اللقاءات بالحديث المشهور عنه عليه السلام والمعروف بحديث (سلسلة الذهب)، وجاء في (بحار الانوار) المجلد (49)، ما نصه: عن أبي المفضل عن الليث بن محمد العنبري، عن أحمد بن عبدالصمد بن مزاحم عن خاله أبي الصلت الهروي قال: كنت مع الرضا عليه السلام لما دخل نيسابور وهو راكب بغلة شهباء وقد خرج علماء نيسابور في استقباله فلما صار إلى المربعة تعلقوا بلجام بغلته وقالوا: يا ابن رسول الله حدثنا بحق آبائك الطاهرين حديثاً عن آبائك صلوات الله عليهم أجمعين فأخرج رأسه من الهودج وعليه مطرف خز فقال: حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنة، عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أخبرني جبرائيل الروح الأمين عن الله تقدست أسماؤه وجل وجهه : إني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي، عبادي فأعبدوني وليعلم من لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله مخلصاً بها أنه قد دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي، قالوا يا ابن رسول الله وما إخلاص الشهادة لله قال عليه السلام : طاعة الله وطاعة رسول الله و ولاية أهل بيته عليهم السلام.
فاستبشر الناس خيرا بمقدم الإمام عليه السلام فقد تخيلوا ان الماضي ولّى وان أيام الظلم والاضطهاد قد انتهت، فها هو المأمون يُعيد الحق الى أهله، وقد انطلت هذه الخديعة على الكثير من عامة الناس إلا القلّة من المقربين والواعين بمجريات الامور فكانوا يعرفون حقيقة نوايا المأمون من الإمام ومن أهل البيت وطريقة حكمه ونزعته الدموية الى السلطة.
وقد علم المأمون من اليوم الأول لوصول الامام خراسان ودخوله القصر إن لعبته لم تعد ذات جدوى، فاذا أمن حالة الرفض والغليان الشعبي، فانه لم يأمن حالة الالتفاف والتمحور حول الامام المعصوم الذي يعده الناس ومن حيث الفطرة الخليفة الحقيقي لرسول الله وهو الأحق بادارة شؤون البلاد والعباد على سنة جده أمير المؤمنين عليه السلام، علماً ان الامام سبق وان شرط على المأمون بأن يكون ولياً على العهد من دون أن يعزل أو ينصب أحداً، فوافق على ذلك.
حاول المأمون بكل الوسائل ان يتقرب للإمام ويتقمص شخصية الموالي والمقرب والمستجيب لكل ما يريده وما تتطلبه شروط الموالاة لأهل البيت عليهم السلام، حتى باتت شخصية الامام الرضا عليه السلام جد محترمة في خراسان والبلاد المجاورة، وهذا ما ألحق به ضرراً سياسياً واجتماعياً غير متوقعاً، والحقيقة فانه بتقربه الى الامام وضع رجلاً نحو الخلف وقدّم التشيع والشيعة خطوات الى الامام.
ومن الشواهد على (انقلاب السحر على الساحر)، تلك الصلاة المليونية العظيمة في صبيحة عيد الفطر السعيد، حيث خرج الناس زرافات الى الصحراء لأداء صلاة العيد بامامة الامام الرضا عليه السلام، فكان يوماً حافلاً ومنظراً مهيباً حيث الناس على مدّ البصر. هذا الاجتماع المليوني الحاشد دفع بمستشاري المأمون أن يوصوه بأن يحول دون أداء الامام هذه الصلاة، فقالوا له: إن وراء هذه الصلاة ربما تكون نهايتك! وبالفعل، بعد الصلاة والخطبة ربما لا يكون ثمة مكان للمأمون في قلوب الناس ولايجدون مبرراً للقبول به خليفة مع وجود إمام معصوم وابن رسول الله وله كل هذه المهابة والمكانة والتكاملية في الشخصية من الجوانب كافة. لذا جاء البلاغ الى الامام وهو يهمّ باداء صلاة العيد يطلب منه الرجوع الى المدينة، فرجع الامام غير عابئ بما يجري فهو ماضٍ في مسيرته الرسالية سواء تخللتها صلاة العيد أو أي ظرف أو حادث آخر.
من هنا وجد المأمون انه أمام طريق مسدود في مسايرته مع الامام الرضا عليه السلام، وانه لايمكنه الاستمرار في ذلك، وإن واصل الطريق ربما يكون هو الميت والمقضي عليه، بسبب تفاعل الاحداث والظروف السياسية حيث قتل وزيره وأمينه الفضل بن سهل على يد جماعة من المعارضين والمتشددين، فوجد انه أمام مصيره المحتوم الذي أعده بنفسه لتحقيق طموحاته في السلطة والهيمنة، فدسّ الى الامام السمّ ليتخلص منه غيلةً ويختفي الامام عن الانظار بهدوء، لكن ذلك لم يحصل إذ أشارت كل أصابع الاتهام الى زعيم القصر العباسي بانه كان اغتيال الامام بهذه الطريقة الجبانة التي لا تنمّ عن ذكاء ولا دهاء، إنما عن حبّ أعمى للسلطة والحكم وتبرير كل الوسائل من أجلها.
لقد استشهد الامام الرضا عليه السلام، كما مات المأمون واندثرت الدولة العباسية، لكن هل من يتحدث عن الدولة العباسية في خراسان؟ وهل من يتحدث عن المواقف الايجابية المزيفة للمأمون مع الامام الرضا عليه السلام؟ إن ذكر الامام وسيرته و ولايته الحقّة هي الباقية حيث يتقرب اليه الملايين بولايته ومظلوميته ليكون شفيعاً للمؤمنين عند الله تعالى.