قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

القرآن الكريم في طريق المجتمع الناجح
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *مرتضى الموسوي
للقرآن الكريم نظرة فلسفية للمجتمع كما له النظرة ذاتها بالنسبة للفرد، فهو يرى المجتمع يسير نحو تقرير مصيره بيده مهما كانت الظروف والاوضاع، وهو في ذلك يحدد بصائر و رؤى تهدي للتي هي أقوم، وتضيء لهذا المجتمع طريق الفلاح والصلاح وتعرفه في الوقت نفسه بمكامن الانحراف والانزلاق نحو أزمات اجتماعية كالتي تعاني منها الانسانية لاسيما مجتمعاتنا الاسلامية التي تدفع اليوم في الحقيقة ثمن ابتعادها عن كتابها الحق ودستورها الرباني المتكامل.
إن نظرة الاسلام الى المجتمع نابعة من الإيمان بان الانسان كائن محدود المعطيات وانه يملك خط السلبيات وخط الايجابيات، وعلينا حين نلاحظ المجتمع، التفتيش عن تفرعات حقائق الخطـين. فالقواعد الاساسية لفلسفة المجتمع في القرآن الكريم تتأطر ضمن نقاط:
1- ضرورة دراسة علم النفس لمعرفة المجتمع، فكل شيء نجد مصغره في الفرد، نجده في المجتمع بصورة كاملة؛ تشابك الخير والشر في نفس كل انسان يعكس ظاهرة تشابك الاخيار والاشرار في المجتمع. وذات القوانين التي تحكم طبيعة التشابك على صعيد النفس ذاتها تحكم التشابك على صعيد الجماعة.
2- لا يجب ارجاع كل الظواهر الاجتماعية الى الجانب السلبي من الانسان، لأننا سنجد انفسنا في حلقة مفرغة لا نعرف من اين تبدأ المؤثرات، بل يجب ان نبحث عن خطي السلبية والايجابية معاً؛ فمثلاً في موضوع اساس المجتمع، لا نستطيع ان نعزيه الى الحاجة وضرورة العيش فقط، وهو - طبعاً- اساس تقتضيه الغريزة الانسانية، بل لابد ان ندخل في حسابنا الحب البريء الذي يتمتع به كل فرد إزاء ولده ووالديه وأقاربه فمجتمعه. كما ليس من الصائب ان نجعل اكتشاف الحديد واستسلام الانسان له، سبباً لطور جديد من المجتمعات، خاضعة للزراعة والصبر والعمل، بل لابد ان نلاحظ ايضاً، حالة الصبر والعمل الذي سبق اكتشاف الحديد، وكان جانباً ايجابياً من الانسان وغير متأثر بالظروف المادية.
كذلك لا نجعل العصبية اساس الملك، ونربط العصبية بالقبلية فالعنصرية فالاقليمية، ثم التيار القومي والحضاري - كما جعله ابن خلدون وتابعوه - بل نلاحظ الى جانب هذا الخط السلبي في تسيير المجتمعات خطوطاً ايجابية ابتدأت من الفكرة الحضارية وطليعة المبشرين بها، والامة وتموجاتها في العالم وغير ذلك مما هو جانب ايجابي بنّاء في حياة الانسان.
3- لابد من النظر الى التطلعات الاصلاحية المبدعة للفرد، ومدى ارادته في فرض هذه التطلعات على التيار الاجتماعي، وهكذا يجب رسم خط بياني كالتالي في معرفة التأثير المتقابل في المجتمع. ففي تأثّر الفرد بالمجتمع نقول:
الفرد = نسبة ضغطه + نسبة ضعف مقاومة المجتمع له = نسبة التأثير.
وبالعكس نقول:
المجتمع= نسبة ضغطه + نسبة ضعف ارادة الفرد = نسبة التأثير.
4- قد يكون تيار الاجتماع خاطئاً كما قد يكون الفرد خاطئاً، ولكن لن تكون القوانين التي لابد من تسليم التيارات الاجتماعية لها، لن تكون خاطئة ابداً. بمعنى ان أي فعـل اجتماعي سليم، ينطوي على مردود سليم، وأي فعل اجتماعي خاطئ ينطوي على مردود خاطئ مثله. وافضل مثل له الآية الكريمة: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ * تُؤْتِي اُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَالَهَا مِن قَرَار" (ابراهيم/24-26)
5- وليست النظم الصحيحة هي التي تتبع تيارات اجتماعية معينة، بل التي تتعرف على سنن الاجتماع وتحدد اهدافه، و وفق تلك السنن تخطط للاهداف، يقول الامام الصادق عليه السلام: (العارف بزمانه لا تهجم عليه النوائب).
6- المجتمع كيان قائم فعلاً، وتستطيع تحديد سمات أي مجتمع من ناحية القوة والضعف، والصحة والمرض، والكياسة والتبل، والشجاعة والجبن، وسائر الصفات البشرية. ولا يعني هذا سوى ان المجتمع سيضغط على الفرد باتجاه الطابع العام، وهذا الضغط هو بدوره مجموع ضغوط الافراد الذين يشملهم اطار المجتمع.
والضغط قد يرتفع الى مستوى العقاب المادي، فيكون بمستوى الحكومة، وقد يكتفي بالعقاب الادبي فنسميه بالقيم. إلا ان الضغط سواء كان عقاباً أم عتاباً، لا يحول الفرد الى آلة صماء، يستجيب لنداء الجماعة، بل انه:
اولاً: يمتص بعض ضغط الجماعة بمستوى مقاومته لهذا الضغط، فإذا كان الضغط مثلاً بدرجة يحمل كل فرد من المجتمع - وهم فرضاً مائة شخص- الى التحدث نصف ساعة حول القيمة التي يقدرها الجميع، وكانت مقاومة الفرد بقدر تحتاج الى نصف ساعة من التشجيع، كان يعني ان هذا المجتمع لا يستطيع سوى دفع مائة فرد آخر نحو تطبيق منهجه، ذلك لان كل فرد يقوم بامتصاص قدر من القوة الجماعية.
ثانياً: يستطيع بعضٌ الصمود امام ضغط الجماعة بمستوى امتلاكه للارادة الحرة التي لا تستسلم لاي نوع من الضغط، حتى يصل الى مستوى سحرة فرعون الذين آمنوا بموسى، وضحوا بكل شيء في سبيل ايمانهم، مقاومين جميع الضغوط حسبما يقص القرآن ذلك: "فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلاَُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ * إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللـه خَيْرٌ وَأَبْقَى" (سورة طه /70-73)
إن المجتمع الذي قاومه هؤلاء السحرة التائبون كان يتمتع بقوة رادعة عقابية، بيد ان المؤمنين، وهم افراد من المجتمع ذاته، كانوا يتمتعون بالعقل الذي يهديهم الى الحق، ثم بإرادة تحررهم من ضغوط المجتمع، والتي عبرت عن نفسها في اقسى العقوبات، ولكنها عجزت عن تحويل الإنسان الى آلة لا تعقل ولا تشاء.
إن هذه النقطة عظيمة، ليست لانها تشكل فقط حجر الزاوية في بناء الإنسان الكامل، بل لأنها تعد عدسة ضرورية في مجهر علم الاجتماع، فحين نتجاهل هذه الحقيقة نتخبط في تقديراتنا للاحداث وللاشخاص ولمسيرة الحياة.
7- إن المجتمع بثنائية الخيوط التي تحركه والتي ترتبط بنفسيات المجموعة البشرية التي يتحرك كل فرد منهم ضمن محور الايجاب والسلب، لابد وان يتكون من خيرين واشرار، ولابد ان تكون المقاومة باتجاه الاصلاح او باتجاه الفساد، هي التي تحدد تحركات هذا المجتمع، فأمام كل فريق ينشد الخير بفعل تفوق الجانب الايجابـي في نفسه على الجانب السلبي، لابـد ان يقف فريق آخر يقاوم هذا الخير، واذ لايمكن ان يكون الاخيار خالصين من كل عيب، كما لايمكن أن يكون الاشرار مفلسين من كل خير أيضاً! لذا فان الفريق المقاوم يجد في بعض ما في الاخيار من شر، وبعض ما لديه من خير مبرراً للقضاء على الخير باسم الخير ذاته.
وهذا الخير والشر موزع في البدء بين الناس توزيعاً يكاد يكون عادلاً، فكل منهم يأمر بالخير وينهى عن الشر، ولكنه يعمل بهما فعلاً، وهذه مرحلة الضلالة العامة، وفيها لانجد شراً مستطيراً كما لا نجد ايضاً خيراً خالصاً.
8- يبقى الانسان على هذه الضلالة التي هي ذاتية بالنسبة الى طبيعته، حتى يأتيه من اللـه نور وهدى مبين، فيصبح البشر فريقين؛ إذ ان فريقاً منهم يشاء بارادته الحرة ان يهتدي ويطهر نفسه من رواسب الشر، بينما يبقى الفريق الآخر على ضلالته، التي سرعان ما يضطر، للدفاع عنها، او ان يتحول الى شر محض!
وإذا كان في المجتمعات خيوط الخير والشر سواء، فليس من صالح الاخيار بل ولا من صالح الاشرار ايضاً، ان نسمح للاشرار بقيادة الناس جميعاً، إذ يعني هذا فرض بعض الشرور على الاخيار وانهاء فرص الاصلاح للاشرار، بل ينبغي فرض قيادة الاخيار وتقليل فرص الاشرار انّى استطعنا الى ذلك سبيلاً، وهناك لا نزيد من فرص الخير للجميع فقط، بل ونشجع كل ذي شر ان يتحول الى خير ايضاً. فيكون النظام الامثل ذلك الذي يسير بالأمة قدماً نحو قيادة الاخيار ابداً.