قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

وظيفة التكرار الفنية ودلالته في المراثي الحسينية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة علي حسين يوسف
التكرار في الشعر العربي عنصر مهم من عناصر الايقاع بل لعله أهمها من خلال ما يتركه في النفس من توقع لنوع من التتابع دون أنواع أخرى، فضلاً عن أنه يعد من أقوى طرق الاقناع من خلال اعتماده على الإفهام والتقرير، ويشترط في التكرار أن لا يتسبب في قطع تسلسل الأفكار داخل القصيدة.
وللتكرار أنواع كثيرة، ولكن لا بد أن يشكل الشيء المكرر ظاهرة في القصيدة لكي يكون أثره و اضحاً في إبراز الإيقاع، وقد يكون التكرار واضحاً كتكرار جملة أو تركيب أو لفظة وقد يكون أقل وضوحاً كتكرار الأصوات داخل القصيدة.
وقد زخر الشعر العربي على مدى أدواره بهذا العنصر المهم حيث رافقه منذ بواكيره الأولى فنجده عند المهلهل بن ربيعة في القصيدة التي رثى بها أخاه كليباً والتي يصدر كل بيت منها بـ(على أن ليس عدلاً من كليبٍ) ويأتي بالعجز مختلفاً من بيت الى آخر كما نجده عند ليلى الأخيلية في رثاء أخيها توبة بن الحمير وكذلك عند الحارث بن عباد الذي يكرر صدر كل بيت من قصيدته بـ(قربا مربط النعامة مني) كما نجده عن الخنساء في رثاء أخيها صخر، والملاحظ أن أغلب التكرار في الشعر العربي يأتي في المراثي وهذا المعنى في الشعر العربي أكثر من أن نحصيه.
كما جاء التكرار في القرآن الكريم وفي عدة مواضع وكان أكثر هذه المواضع في سورة الرحمن حيت تكررت آية (فبأي آلاء ربكما تكذبان) بعد كل آية.
وقد شكلت ظاهرة التكرار هذه عنصراً مميزاً في المراثي الحسينية حيث لوحظ تأكيد الشعراء على تكرار ألفاظ معينة موحية في دلالاتها الحزينة والمفجعة على أحداث يوم الطف أو تكرار إسلوب معين ولا سيما أساليب الاستفهام والتعجب لدلالة الأول على رفض الشاعر و استنكاره لما جرى في كربلاء ودلالة الآخر على الذهول والحيرة لفداحة يوم الطف وبرزت الوظيفة التأكيدية لإسلوب التكرار في ألفاظ أخرى متعددة ويقول السيد حيدر الحلي:
نعى الروح جبريلٌ بأن ذوي الغدرِ أراقو دم الموفين لله بالنذرِ
نعى وانقلاب الكون في ضمن نعيه بأن ذوي الحجر استباحوا ذوي الحجرِ
نعى فغدا من في الوجود بدهشةٍ هي الحشر لابل دونها دهشةُ الحشرِ
نعى من بقلب الدهر من جرح جسمه جراحاتُ حزنٍِ لا يعالجن بالسبرِ
نعى أن روح الكون بالطف أقلعت يد الموت منه وهي داميةُ الظِفرِ
ينطلق الشاعر من مفردة (نعى) لتكوين احداث تتابعية تتصاعد تدريجياً فتشد القارئ الى الشعور بهول الفاجعة حيث يصدر هذه المفردة – نعى – في جميع أبيات القصيدة التي تبلغ 29 بيتاً حيث يقول في آخر القصيدة:
نعى أن أسيافاً نحرن أبن فاطم نحرن بحجرِ الله كل أُولي الأمرِ
نعى ظامياً أبكى السماء بعندم وحق لها تبكي بأنجمها الزهرِ
نعى من بكى لا خيفةً من عداته ولكن لاشفاقٍ عليهم من الكفرِ
نعى شاكراً نال الشهادة صابراً وقد يجتنى شهد العواقب بالصبرِ
إن مفردة (نعى) اضافة الى ما توحيه من دلالة على الحزن والأسى فقد أكد الشاعر على قيمتها المعبرة من خلال وصلها بأحداث الطف في كل أبيات القصيدة لخلق حالة من الحزن الهادف الذي تجلى في الأبيات الأخيرة، وظاهرة التكرار هذه كثيرة في شعر السيد حيدر حيث تعددت صور أحداث الطف في مراثيه الحسينية منها قوله:
ما حال صائمة الجوانح أفطرت بدم وهل تُروي الدما إضماءها
ما حال عاقرة الجسوم على الثرى نهبت سيوف أمية أعضاءها....الخ
ومنها قوله:
أصبراً واعراف السوابق لم يكن من الدم في ليل الكفاحِ اختضابها
أصبراً ولم ترفع من النقع ضلةٌ يحيل بياض المشرقين ضبابها
أصبراً وسمر الخط لا متقصّدٌ قناها ولم تندق طعناً حرابها
أصبراً وبيض الهند لم يثن حدَّها ضرابٌ يرد الشوس تدمى رقابها
ويلاحظ في هذه الأبيات (الثائرة) محاولة الشاعرة إثارة النفوس واستنهاض الهمم للأخذ بثأر الحسين (ع) والشاعر يشير في ذلك الى الإمام المهدي (عج) والذي مثل خروجه (ع) حداً للظلم والانتصاف من الأمويين قتلة الإمام الحسين (ع) وتتصاعد نبرة الاستنهاض في نفس القصيدة:
وتلك بأجراع الطفوف نساؤكم عليها الفلا أسودّت وضاقت رحابها
وتلك بأجراع الطفوف نساؤكم يهدّ الجبال الراسيات انتحابها
****
أفتيان فهر أين عن فتياتكم حميتكم والأسد لم يحم غابها
أفتيان فهر أين عن فتياتكم حفيظتكم في الحرب إن صرّ نابها
وتكاد تشمل هذه الظاهرة جميع مراثي السيد حيدر الحسينية ففي لاميته الرائعة يقول:
كم رضاع الضيم لا شب لكم ناشئٌ أو تجعلوا الموت فصالا
كم وقوف الخيل لاكم نسيت علكها اللجمِ ومجراها رعالا
كم قرار البيض في الغمد أما آن أن تهتز للضرب انسلالا
كم تمنّون العوالي بالطلى اقتل الأدواء مازاد مطالا
من خلال الإيقاع الذي ولّده تكرار (كم) بدا الانسجام واضحاً بين ايقاع الأبيات والمعاني التي أفادها تعدد الصور مما جعل المتلقي يترقب فعل القول منذ البيت الأول.
ويصل هذا التكرار في شعر السيد حيدر الى الحد الذي يكون مقدمة لقصيدته (الجيمية) إذ يبدؤها بقوله:
كم توعد الخيل في الهيجاء أن تلجا ما آن في جريها أن تلبس الرهجا
وكم قنا الخط كفُّ المطلِ تفطمها ما آن أن ترضع الاحشاءَ والمهجا
وكم تعلل بيض الهند مغمدةً عن الضراب ولما تعترف وَدَجَا
ويأتي تكرار الاستفهام للدلالة على الاستنكار والتعظيم والتهويل والتفجع مما جرى على أهل البيت (ع) في كربلاء فيكون بتكرار أداة كتكرار (أأنسى) في القصيدة الرائعة لآية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والتي يقول فيها:
أ أنسى وهل ينسى رزاياكم التي ألبت على دين الهداية ذولبِ؟
أ أنسى باطراف الرماح رؤوسكم تطلّع كالأقمار في الأنجم الشهبِ؟
أ أنسى طراد الخيل فوق جسومكم وما وطأت من موضع الطعن و الضربِ؟
أ أنسى دماء قد سفكن وأدمعاً سكبن وأحراراً هتكن من الحجبِ؟
أ أنسى بيوتاً قد نهبن ونسوة سلبن وأكباداً أذنبن من الرعبِ؟
أ أنسى اقتحام الظالمين بيوتكم تروّع آل الله بالضربِ والنهبِ؟
أ أنسى اضطرام النار فيها وما بها سوى صبية فرت مذعّرة السربِ؟
أ أنسى لكم في عرصة الطف موقفاً على الهضب كنتم فيه أرسى من الهضبِ؟
كما تبرز دلالة (المفردة) في تأكيد الشاعر عليها لتكوين حالة من التنبيه الى عظيم الخطب وفداحة الجرم الذي ارتكب بحق الإمام الحسين وأهل بيته (ع) كما في تركيز الشيخ هادي النحوي الحلي في هذه الأبيات على مفردة (اليوم) في دلالته على يوم الطف:
اليوم دين الهدى خرّت دعائمه وملة الحق جدّت في تداعيها
اليوم ضلَّ طريق العرف طالبه وسد باب الرجا في وجه راجيها
اليوم عادت بنو الآمال متربة اليوم بان العفا في وجه عافيها
اليوم شق عليه المجد حلّته اليوم جزّت له العليا نواصيها
اليوم عقد المعالي فض جوهره اليوم قد اصبحت عطلى معاليها
اليوم أظلم نادي العز من مضر اليوم صرف الردى أرسى بواديها
اليوم قامت به الزهراء نادبة اليوم آسية وافت تواسيها
اليوم عادت لدين الكفر دولته اليوم نالت بنو هند أمانيها
وبرزت الوظيفة التأكيدية لإسلوب التكرار في لفظة (قالوا) في قصيدة عبد العظيم الربيعي:
وقالوا لم يغسّل شبل طه ألم يك غسله فيض الوريدِ
وقالوا لم يقلّب والعوادي تقلّبه على وجه الصعيدِ
وقالوا لم يكفّن والسوافي عليه نسجن ضافية البرودِ
وقالوا لم يشيّع فوق نعشٍ كتشييع الجنائز للحودِ
فقلت: إذن لمن في الرمح رأسٌ يطاف به البلاد الى يزيدِ
أما تكرار الأصوات فربما كان أكثر دلالة على حالة الحزن التي يعيشها الشاعر لأنها تفيض بما يعتمل في صدره من مشاعر نحو واقعة كربلاء، يقول السيد رضا الموسوي الهندي:
لهفي لجسمك في الصعيد مجرّدا عريان تكسوه الدماء ثيابا
ترب الجبين وعين كل موحد ودت لجسمك لو تكون ترابا
لهفي لرأسك فوق مسلوب القنا يكسوه من أنواره جلبابا
يتلو الكتاب على السنان وإنما رفعوا به فوق السنان كتابا
لينح كتاب الله مما نابه ولينثن الإسلام يقرع نابا
وليبك دين محمد من أمةٍ عزلوا الرؤوس وأمّروا الأذنابا
يلاحظ تكرر صوت السين في كل بيت وهو صوت مهموس مما خلق إيقاعاً حزيناً منسجماً مع المعاني والصور في الأبيات.
ويجد القارئ الكثير من هذا المعنى الذي توفرت فيه شروط الإيقاع الشعري الصوتي الجميل في المراثي الحسينية التي تميزت بالثراء الشعري لشيوع الوعي النقدي فضلاً عن مراعاة الشعراء لمتطلبات الإنشاد المنبري.