قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
عبرة لمن يعتبر
قوة العلماء
يتفق الجميع على حجم دور علماء الدين في المجتمع بل على مختلف الاصعدة في الحياة، ومصداق هذا واضح في العراق بعد الاطاحة بالنظام الديكتاتوري الظالم، لكن يتساءل الجميع في نفس الوقت عن سبب ابتعاد العلماء عن مراكز القرار والقوة، او العكس، ابتعاد مراكز القرار عنهم، لكن في كل الاحوال النتيجة واحدة، حيث ليس امام علمائنا اليوم سوى التعامل مع التطورات والاحداث بعد وقوعها.
هذا السؤال طرحه المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي ـ رحمه الله ـ في كتابه (لكيلا تتنازعوا)، ويستذكر سماحته كيف ان اللوم انصب على علماء الدين في عدم وقوفهم الى جانب الانقلاب العسكري الذي اطاح بالنظام الملكي عام 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم، ويعزي سماحته هذه المشكلة باختصار الى عنصر القوة لدى عملاء الدين.. ويستشهد سماحته بتاريخ صدر الاسلام وكيف انهارت جبهة المسلمين باستشهاد امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ امام جبهة معاوية، ولاقوة كانت في عشائر الكوفة وقبائلها التي كانت ملتفة حول الامام علي ـ عليه السلام ـ وبغيابه انهارت قوة الكوفة وتغلبت قوة الشام وتكررت الحالة مع اهل الكوفة باستشهاد الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ لكن ظلت العشائر المسلحة كفة اجتماعية متماسكة ومؤثرة، تشكل القاعدة القوية لعلماء الدين حتى التاريخ المعاصر للعراق، بل كان كل طرف يدعم ويساند الطرف الآخر، فحدث عدة مرات في العهد الملكي ان حاولت الحكومة اتخاذ اجراءات مغايرة للدين، فلجأت العشائر الى العلماء، كما كانت الحكومة تحسب للعلماء ألف حساب قبل ان تتخذ اي قرار لانه تمتلك يداً ضاربة وقوة جاهزة على الارض.
ويروي المرجع الشيرازي الراحل كيف تم استهداف جناحي المرجعية الدينية التي كانت بهما تحلق في الآفاق وتشرف على الجميع، المتمثلين بجناح العشائر وجناح المال ومصدره انسحاب رؤوس الاموال؛ من هنا نفهم مصدر الثقة والاطمئنان لدى المرجعية الدينية في العهود الماضية لدى اصدارهم الفتاوى المصيرية، فهم لم يكونوا يخشون سلطة الدولة اذا كانت غاشمة وظالمة، كما لم يفكروا بمشكلة المال والاوضاع المعيشية للناس في حال انعكاس فتواهم على الوضع العام.
فعند تجريد العشائر من السلاح ـ يقول المرجع الشيرازي الراحل ـ قامت سلطات (الثورة) بعد عام 1958 بقطع العلاقة ما بين رؤساء العشائر واتباعهم الفلاحين بذريعة انهاء الاقطاع واستبداله (بالاصلاح الزارعي)، وقد تحول هذا الاصلاح الى (افساد) زراعي.
ويستذكر سماحة المرجع الراحل شاهدين على تراجع قوة علماء الدين امام السلطات الحاكمة في العراق بالرغم من اخطائها المفضوحة، الشاهد الاول يتعلق بمشروع الاصلاح الزراعي في العهد القاسمي، حيث ألف وزير الزراعة آنذاك الدكتور عبد الصاحب علوان كتاباً حول الاصلاح الزراعي، بالمقابل الف سماحة السيد صادق الشيرازي ـ حفظه الله ـ كتاباً حول الاصلاح الزراعي الاسلامي، بيّن فيه خطوات الاصلاح وفق الرؤية الاسلامية واجرى مقارنة عملية بين النموذج الاسلامي للاصلاح وما هو سائد في العراق ودول اخرى، وقد اكد فيه السيد الشيرازي ان الاصلاح الزراعي الاسلامي هو الحل الوحيد ليس فقط للعراق وانما لكل العالم لانقاذ الزراعة والفلاح من الدمار والانهيار وقد وصلت نسخة من الكتاب الى وزير الزراعة عن طريق احد علماء الدين وكان صديقاً للوزير كما كان احد اصدقاء السيد الشيرازي.. وبعد مطالعة الكتاب اعجب الوزير بجرأة السيد الشيرازي في الرد على كتابه، لكن بحكم موضوعيته ومكانته الاكاديمية كان عليه الاجابة على تلك الردود، فوعد صديقه بالرد، وبعد مدة من الزمن سأله صديقه العالم عن رده، فاجاب ضاحكاً: (انا مأمور بتنفيذ هذه الخطة، وليس لنا حق اختيار اصلاح زراعي آخر)، وكان هذا هو رده على كتاب السيد الشيرازي ـ حفظه الله ـ.
وهناك كثير من المواقف والشواهد الدالة على ان غياب المرجعية الدينية عن الساحة لم يسفر عن بديل احسن وافضل وانما جعل الساحة تتخبط بالمشاريع والاجراءات التي كانت تقف وراءها مصالح فئوية وخارجية، بل كان يبين هزالها وتنكشف سوءاتها لمجرد انتقادها والبحث في جذورها واصولها بشكل علمي دقيق، وعليه نجد الخيار الوحيد امام معظم الانظمة الحاكمة هو ابعاد المرجعية عن المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وإلا وقعت المواجهة.