قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
تساؤلات على ضفاف الذكرى العطرة
انتظار الموعود وأثره في بناء المجتمع الإسلامي
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *الشيخ محمد الاسدي*
منذ غياب الإمام القائم ـ عليه السلام ـ عن الأعين وبدء حياته خلف ستار الغيبة، دارت أسئلة كثيرة في خلد المتطلعين إلى مسائل الغيبة. وكثير من هذه الأسئلة ذكرت في المؤلفات المرتبطة بالامام الحجة في القرنين الرابع والخامس، وأجاب عنها العلماء أجوبة مناسبة، من هؤلاء الشيخ الصدوق أحد محدثي الشيعة العظام الذي توفي سنة 305 للهجرة، فقد تحدث في كتابه (كمال الدين وتمام النعمة) عن المسائل المرتبطة بالغيبة. كما تحدث عن الموضوع نفسه الشيخ النعماني الذي عاش في القرن الخامس للهجرة، وهكذا العلم الكبير الشيخ الطوسي الملقب بشيخ الطائفة المتولد عام 385 للهجرة والمتوفى عام 460 حقق بشأن هذه المسائل في كتبه، كل ذلك يؤكد قدم هذه الأسئلة حول المهدي –عجل الله فرجه- حيث قد مرّ عليها ألف عام أو أكثر، وطبعا ليست الأجوبة جديدة أيضا، بل لها عمر طويل كتلك الأسئلة، وكل ما في الأمر هو أن الأجوبة اتخذت شكلا خاصا على طول الزمن وواكبت مقتضيات كل عصر.
ومن الأسئلة الشائعة حول إمام العصر والزمان –عجل الله فرجه-، السؤال عن فائدة وجود الإمام الغائب؟!
وكلنا يعلم أن الأثر البارز لوجود الإمام هو الهداية والإمامة، والسؤال الذي يطرح نفسه هو : كيف يمكن للإمام الغائب عن الأنظار أن يهدي، وبعبارة أخرى بالنظر إلى أنّ القرآن يعد الهداية من خصوصيات الإمام كما جاء في سورة الانبياء: "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا". والسؤال هو: كيف ننتظر أداء مهمة ثقيلة كهذه من الإمام الغائب؟ ثم إنّ الإمام –عجل الله فرجه- هو القائد والزعيم والإمام. ووجود القائد لا يكون مفيدا إلاّ أن يكون متصلا بشكل مستمر بأصحابه. فكيف يمكن للإمام الغائب عن الأنظار أن يؤدي دوره القيادي؟ هذا السؤال بدوره يثير التساؤل بان حياة الإمام في زمن الغيبة أ تعد حياة خاصة أم حياة اجتماعية؟ ومع هذا يجوز لنا أن نسأل ما هو الأثر العام لهذا الإمام المدّخر للناس؟ وما هي الفائدة التي يجنيها الناس من وجوده؟ فهو كنبع ماء الحياة الزلال الموجود في الأعماق حيث لا أحد يصل إليه.
فضلاً عن ذلك هل مفهوم الإمام –عجل الله فرجه- هو أن وجوده تبدل إلى روح لا مرئية أو أمواج خفية أو أشعة أوأمثال ذلك، وهل هذا يوافق العلم؟
إنّ هذا السؤال مهم بلا شك، ومن الخطأ أن نظن أنه يبقى بلا جواب، ولكن دعونا نجب أولا عن إنّ الامام –عجل الله فرجه- له حياة طبيعية وعينية ووجودٌ خارجي، إلاّ أنّه يعيش مع الناس وفي المجتمعات وفي مناطق مختلفة، وإن كان في حياته استثناء فهو عمره الطويل فقط.. إنّه يعيش في المجتمع البشري بشكل خفي، ولم يدّع أحد بشأن غيبته غير هذا وفرق كبير بين المجهول واللاّمرئي.
والآن وبعد أن ارتفع هذا الإشكال المتعلق بحقيقة وجود الامام –عجل الله فرجه- لنا ان نجيب عن الاسئلة الآنفة الذكر ونبين حقيقة الفوائد الجمّة والاكيدة للمجتمع والامة الاسلامية على مر الزمان.وذلك من خلال النقاط التالية
1- وجود الإمام والقائد سبب في بقاء المذهب:
أثبتت التحليلات العلمية والإجتماعية أن للإعتقاد بوجود إمام بهذه المواصفات مع طول مدّة غيبته أثراً عميقاً في المجتمع الشيعي، وذلك أن لكل مجتمع مؤسسات وكيانات يكون بقاؤها مرهوناً بوجود رئيسها وقائدها. وكلما كان هذا القائد في قلب المجتمع، كان تأثيره في قيادة الأمة وإدارة شؤونها اكثر واكبر، وفي حال عدم وجود هذا القائد لأسباب مختلفة، فإنّ وجوده كاف لمواصلة أتباعه طريقهم، لأنّهم بأمل وجود ذلك القائد يتعاونون ويتحدون ويواصلون نشاطهم.
على طول التاريخ، وبين الأمم الحيّة التي نهضت وثارت، نجد مصاديق كثيرة لهذا الأمر، حيث تبيّن أن القائد ما دام حياً، وإن لم يوفق للقيادة مباشرة، فان أتباعه والمؤسسات التابعة له تقوم بهذه المهمة. وما إن تنتهي حياته حتى تشيع التفرقة بين الناس وتنهار القوى. وأقرب مصداق لنا على هذه الحقيقة ما جرى للمسلمين في غزوة أحد، فقد أشيع في تلك المعركة بين الجند نداء (ألا قد قتل محمد) ! خطأ أو عمداً، فالنتيجة كانت واحدة، ان شياع هذا الخبر بين المسلمين في الوقت الذي كانوا يردّون هجوم العدو، وبعد انتشاره بقوة، فرّ كل منهم إلى جهة وتركوا القتال. وفكر البعض بالالتحاق بالعدوّ! لكن عندما بان كذب الخبر واستيقن المسلمون بوجود الرسول الاكرم – صلى الله عليه وآله- حيّاً ورآه البعض بعينه اجتمع الجيش المتفرق مرة أخرى من أطراف جبل أحد ومن مختلف الصخور حول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم-، وشرعوا بالحرب والدفاع مرة أخرى، وقد بين الله تعالى هذه الحقيقة في القرآن بقوله: "وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين".
إنّ المجتمع الشيعي طبقا لإعتقادهم وايمانهم بوجود الإمام الحي - رغم أنهم لا يرونه- يجعلهم لا يحسون بالوحدة، فالمجتمع الشيعي ينتظر دائما عودة ذلك المسافر الذي يحمل معه قوافل القلوب، وإنّ انتظاره البنّاء المؤثر يزيد من احتمال ظهوره كل يوم، ويمكن ادراك أثر هذا التفكير الروحي في إحياء الأمل في القلوب وحثّ الأفراد على التزكية والإصلاح والإستعداد لتلك الثورة الكبيرة.
والآن لنطرح هذا السؤال حول إمام العصر والزمان –عجل الله فرجه-: ألا يؤثر الاعتقاد بوجود الإمام الحيّ والحاضر والناظر والمستعد للنهضة متى شاء، والقائد الحقيقي للأمة الإسلامية، في حفظ وحدة الأمة وتماسكها، وبالأخص إعداد الأفراد للثورة على الظلم والإستبداد والتفرقة والإنحراف؟
كلما اعتقدت أمة بحياة قائدها وانتظارها لأمر الله بالظهور، فإنها لن يصيبها اليأس، ولن تفقد وحدة كلمتها، بل تسعى لحفظ مذهبها ودينها وتربي القوي لتحقيق هدفها، ولكن لو قيل لهذه الأمة: لا قائد لكم، أو إن قائدكم سيولد مستقبلا، ولا يعلم وقت ولادته، بل إنّ أجداده لم يولدوا بعد، فهل ستكون ثمة روح الانتظار البناءة لأمة كهذه؟ وهل ستوجد فيها القوة اللاّزمة لذلك؟ وهل تتأثر أنظمتهم المادية والمعنوية بهذه العقيدة؟ أم أنّ هذا الأمر ينتهي بتشتت الأفراد وتفرقهم وهلاك الدين؟
2- فوائد الإمام المنتظر للأمة الإسلامية:
حان الوقت لنتعرف فوائد الإمام للأمة عن قريب، ونذكر هذه الفوائد تحت عنوان كلي، أي: (هو كالشمس خلف الغيوم) وهذه الفوائد تبيّن حقيقة هذا التشبيه. ففي الأحاديث المتعددة الواردة بشأن فلسفة وفائدة وجود الإمام –عجل الله فرجه- في زمن الغيبة هناك تعبير لطيف وبليغ في عبارة قصيرة، قد يكون مفتاحا لحلّ هذا السرّ العظيم، وهو صادر عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إذ قال في جواب سؤال عما هي فائدة المهدي – عجل الله فرجه- في عصر غيبته: (أي والذي بعثني بالنبوة إنهم ينتفعون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جللها السحاب).
إنّ الأشعة المعنوية واللامرئية لوجود الإمام الحجة المنتظر بوصفها محجوبة خلف سحب الغيبة، لها آثار مختلفة وعديدة، توضح فلسفة وجوده هي:
1- حراسة دين الله:
فمع مضي الزمن واختلاط الأذواق والآراء الشخصية بالمسائل الدينية، ونتيجة لمخططات المذاهب المنحرفة والغاوية، وامتداد يد المفسرين للعبث بالمفاهيم السماوية، فإنّ ثمة امكانية تعرض اصالة بعض القوانين الالهية للصدأ أو التغيير في الشكل والمضمون، فالماء الزلال النازل من سماء الوحي بمروره من خلال العقول غير النظيفة يتعرض قطعاً للتعكّر والتشويه.
وبما إنّنا نعلم أن في كل مؤسسة مهمة توجد خزانة محكمة تحفظ فيها الوثائق المهمة من أيدي اللصوص والعابثين ومن خطر التلف لارتباط مصير تلك المؤسسة بها، فإنّ صدر الإمام الغائب وروحه العالية تعد بالحقيقة بمنزلة الصندوق المحكم لحفظ وثائق دين الله وأماناته. يحفظ فيه الأصالات الأولية والخصائص السماوية لهذه التعاليم، كي لا تبطل الأدلة الإلهية وآيات الله الواضحة ولا تنطفئ. وهذا بحد ذاته يعد من أهم فوائد وجوده الشريف بيننا.
2- تربية مجموعة خبيرة وعالمة:
خلافا لما يتصوره البعض فإنّ علاقة الإمام بالناس ليست مقطوعة تماماً في زمن الغيبة، بل كما يظهر من الروايات الإسلامية أنّ مجموعة صغيرة من أكثر الأفراد استعداداً ومن لهم عقول يملؤها عشق الله وقلوب يملؤها الإيمان والإخلاص، ترتبط بالإمام – عجل الله فرجه-.
وليس معنى هذا ان يعيش هؤلاء الافراد مع الإمام بصورة روح لامرئية أو أشعة مخفية، بل هو يتمتع بحياة طبيعية هادئة، يعايش هؤلاء الناس بنحو لا يتعرفونه، ويختار القلوب المستعدّة جدّا، ويهيئها ويربيها أكثر من ذي قبل، ليتوفق الأفراد المستعدون باختلاف مستوى استعدادهم لإدراك هذه السعادة، فيقابله البعض عن قريب للحظة واحدة أو عدّة ساعات أو ايام أو سنين، وبعبارة أوضح: هناك أفراد استقروا على أجنحة العلم والتقوى، وارتفعوا بها كراكب الطائرة يحلق فوق السحب حيث لا حجاب ومانع أمام أشعة الشمس الكونية، في حين يعيش الجميع تحت السحب وفي الظلام والنور الخافت .
3- بيان هدف الخلقة:
لا يخطو أي فرد عاقل خطوة بلا هدف، بل كل حركة تتم في ضوء العقل والعلم تكون في مسير هادف، مع فارق أن هدف الناس عادة هو رفع الحاجة والنقص، أما فعل الله فإنّ هدفه هو رفع حوائج الآخرين، لأنّ ذاته لا نهاية لها، وهو خال من كل نقص، لذا لا معنى لقيامه بفعل يعود نفعه إليه.
ومن البديهي أنّ الشمس وغيث السماء وبركات الارض والرياح وغيرها من النعم لم تخلق، ليتنازع عليها مجموعة من الفاسدين ليأكل بعضهم بعضا ثم يسود في الارض الظلم والجهل والفساد..انما خلق هذا الكون وكل خيراته في نظر الموحّد العارف بمفاهيم العلم وحكمة الله، خلق للصالحين والطاهرين، وسوف ينتزع آخر الأمر من أيدي الغاصبين ويعطى لهم. "إنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون"
إنّ الرسول والإمام هما قدوة الصالحين، وأنموذج بارز للإنسان الكامل أي تلك المجموعة التي تشكل الهدف الأصلي للخلقة، ولهذا فوجوده وحده أو على رأس جماعة الصالحين يحقق هدف الخلقة وسبب نزول كل خير وبركة، سواءٌ عاش بين الناس بشكل ظاهر أو في خفاء وستر. صحيح أنّ بقية الصالحين هدف أيضا للخلقة أو بتعبير آخر هو قسم من ذلك الهدف العظيم، لكن القدوة الكاملة لهذا الهدف هم الأفراد النموذجيون ورجال السماء، مع حفظ موقع الآخرين ومقامهم.
وهذا يفسر ما ورد في بعض العبارات بهذا المضمون: (بيمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء)، وهذا ليس بمبالغة، ولا بعيدا عن المنطق، وقد وردت عبارة مشابهة في حديث قدسي يخاطب الله تعالى فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم-: (لولاك لما خلقت الأفلاك)، لذا فهو بيان لحقيقة كونه هدف هذه الخلقة، وباقي الصالحين يشكلون قسما من هذا الهدف العظيم.
وعليه فإنّ الذين عدّوا وجود الإمام – عجل الله فرجه- في عصر الغيبة لايعدو كونه شخصيا لا أثر له في المجتمع، وحاربوا عقائد الشيعة في هذا المجال، وادعوا أنّ وجود إمام كهذا لا نفع له في مقام قيادة الناس، هم يجانبون الحقيقة والمنطق وبعيدون عن الحق.
*شبكة المهدي العالمية للمعلومات