قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الاسلام و النظرة الحقيقية إلى الخلق
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *عبد الخالق محمد علي
من خلال من معرفة حقيقة الوجود نعرف النظرة الاسلامية في الخلق، إذ ان الخلق لا يعدو ان يكون ايجاداً مستمراً للاشياء. فالكون موجود بينما نور الوجود قائم باللـه، فاللـه سبحانه هو القيوم القائم بذاته، والذي تقوم الأشياء به!
هنا يجب ان ننتبه الى لفظة (الباء) ههنا، فهي عميقة الدلالة على طبيعة الصلة بين الخالق والمخلوق، اذ انها تدل على (التأثير بلا تأثر)، فاللـه يمسك السموات والارض ولكن دون ان يكون ذلك بعمل منه يحتاج الى حركة وتغير ونقصان ومن ثم تعب وارهاق، بل انه سبحانه لشدة فعاليته، وشمول قيمومته، يخلق الأشياء بدون ان ينقص منه شيء او يحتاج الى تطور فيه.
فهو ليس بحاجة الى هبة بجزء من كيانه ليصوغ من كينونته الأشياء كما تصورت الفلسفات الجاهلية، بل ان نظرة منه تكفي لانقلاب الظلمات الى النور. إذاً فطبيعة خلق اللـه سبحانه لا تخرج عن اطار حدين اثنين:
1- فعل وفاعلية وتأثير وتكوين.
2- بلا انفعال ومفعولية وتأثر وتكوّن.
ومن المستصعب على الفكر البشري، وقد تعود على مباشرة المخلوقات، ان يتصور الخلق الأول إذ انه لا يخرج عن اطار فاعليات البشر التي هي؛ (تأثير وتأثر)، فبقدر ما يؤثر الفاعل في شيء يتأثر به، فهو يستنزف منه الطاقة ويورثه التعب والارهاق! بينما اللـه بعكس ذلك تماماً فهو متعال عن التأثر والتطور.
حصل ذات مرة أن سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) خطيباً من اهل الكوفة يتكلم في الاستطاعة، فقال له: أمع اللـه تستطيع ام بدونه؟ فقال: لا ادري ما أقول! فقال الامام (عليه السلام): أيهما قلت ضربت عنقك! قال: إذن؛ فمـا أقـول يا امير المؤمنين؟ قـال : قل: باللـه استطيع، فليس اللـه داخلاً فـي الانسان حتى يكون الخلق في صفه ويكون شريكاً له سبحانه. وليس - من جهة اخرى- مزايلاً عن الخلق بعيداً عنه حتى يكون الخلق مستغنياً عنه مستطيعاً بدونه، بل هو مؤثر في الخلق دون ان يكون متأثراً به سبحانه.
*الخلق من وحي القرآن الكريم
"إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (النحل /40)، والقول هنا كناية عن المشيئة الإلهية التي حين تريد ان تخلق شيئاً، لا تحتاج الى حركة او عمل بل تبدعه ابداعـاً.
" وَأَشْرَقَتِ الاَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا" (الزمر /69)، فالنور هنا تعبير لطيف عن تلك الطاقة - ان صح التعبير- التي تجعل الأشياء موجودة وهي مملوكة للـه.
"إِنَّ اللـه يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً" (فاطر /41)، ويدعى ذلك الأمر الذي يعطي الوجود بصورة مستمرة بالعرش - في لغة القرآن الكريم- وقد جاء فيه: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" (طه /5).
"اللـه لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" (1) (النمل /26).
*الاستنتاج
إن نظرة الإسلام الى الخلق تنسجم بمجملها مع سائر الحقائق المكتشفة، مما يزيدنا ثقة بها وايماناً بصدقها، والحقائق التالية في الوقت الذي هي استعراض لمدى انسجام النظرة الاسلامية مع سائر الحقائق المشهورة، فإنَّ ذكرها يفيد من جهة اخرى، هي انها تشكل زوايا المقارنة مع النظريات الفلسفية الاخرى:
1- مشكلة العدم.
لقد تعود الماديون اثارة الشبهة في وجه المؤمنين بالسؤال: كيف يمكن خلق الاشياء من اللاشيء؟ إلا ان النظرة الاسلامية في الخلق تنسف هذه الشبهة بسرعة، إذ ان اللاشيء لم يتسبب في ايجاد الشيء. ولا ان اللـه خلق الأشياء من (لا شيء)، بل ان اللـه تعالى لا من شيء خلق الأشياء. فهو باعث الخلق، وهو مبدئه. وبتعبير آخر: ان الوجود لم يصدر من العدم، ولا ان العدم تحول الى الوجود، بل ان اللـه لشدة فاعليته وشمول قيمومته افاض من نوره فتحققت الأشياء وظهرت.
إلا ان هذه الحقائق الموجودة لم تصبح بعد الخلق قائمة بذاتها حتى تأتي الشبهة بانه كيف تحول الزائل بذاته الى قائم بذاته، والذاتي لا يتطور ولا يتغير ؟
ان طريقة الإجابة على هذه الشبهة: القول بان الأشياء كانت ولم تزل فانيـة بذاتها، وممكنة ان تقوم بغيرها، وسواءً بعد الخلق او قبله فان الأمر لم يتغير.
2- مسألة البعث.
بما ان العدم لم يتحول الى وجود، بل ان المعدوم الذي كان من طبيعته امكانية الإيجاد، رُش عليه نور الوجود، فبقدره اكتسب من النور الظهور، فان (اعدام) الموجود لن يكون مستحيلاً امام قدرة الخالق العظيم. وثم اعادته الى الوجود ممكنة ايضاً، إذ لا يعدو ان يكون مثل اللوحة التي نوجه إليها النور فتظهر ثم نذهب بنورها فتعود مظلمة ثم نعيد النور إليها.
ان مسألة البعث ستكون عادية للغاية، لو سلمنا بنظرة الإسلام في الخلق، المبتنية على عرضية الوجود بالنسبة الى الموجودات القائمة بغيرها.
3- مسألة التطورات.
إن التطورات المفاجئة لا تعدو مشكلة فلسفية كما لا تعدو قفزة الطبيعة مشكلة اخـرى. إذ ان يد الخلقـة لم تقصر عن المخلوقات في لحظة بل هي مبسوطة عليها، مستطيلة فيها، فاللـه سبحانه حين خلق الأشياء لم تقم بذاتها، بل لا تزال محتاجة الى فضل اللـه الذي يعطيها الاستمرارية في الوجود. وعليه: فان كل لحظة تمر عليها تختلف عن اللحظات السابقة، او اللاحقة. وعلى ذلك؛ فكل لحظة يخلق اللـه الأشياء خلقاً جديداً، ولا مانع لديه ان يخلقها في طور جديد ايضاً.
ان تدخل القدرة الغيبية ليس كما يُظن يتحقق بظهور أيادٍ طويلة واجهزة ضخمة، من السماء الى الأرض! كلا، بل بما ان خلفية الموجودات هي من عند اللـه، فان تغييرها انما هي من داخلها، ومن حيث وجودها الذي يوهب لها بصورة مستمرة، فهي ليست بحاجة الى تغيير لون لوحة تركز عليها الضوء حتى تبدو بشكل جديد بل نهاية ما يتطلب الأمر منك تغيير زجاجة (المصباح) الذي تستخدمه للاضاءة. بل حتى التطورات التدريجية ليست غير تغيرات في الخلق، فهي خلقة جديدة بعد خلقة اخرى.
4- مسألة المعاجز.
ليست المعاجز بعيدة عن روح النظـرة الإسلامية في الخلــق، إذ هي هي الخلقة، تعدم او تغيّر ببساطة، ما دامت الأشياء قائمـة بغيرهـا، فالنار التي تعود برداً وسلاماً تبدو لدينا معجزة، ولكنها في الواقع ليست سوى عملية واحدة مع النار التي تحرق الأشياء ، والفرق ان اللـه كان يخلق النار ويخلق معها الحرارة في كل لحظة، اما الآن فخلق النار ولم يخلق حرارتها، بل خلق مكانها برداً وسلاماً.
5- مسألة الطبائع.
والقوانين الكونية ليست سوى سنن إلهية ، قد قضى اللـه على نفسه اجرائها فهي اقدار، ليس إلا.
6- مسألة الشرائع.
وإذا استطالت قدرة اللـه على الأشياء فاستطاع تغيير ماشاء تغييره، فانه سيكون قادراً على بعث الأنبياء ودعمهم بالمعاجز، وارسال الكتب معهم.
وبعد كل ذلك، لن يكون بوسع المشككين والمغالطين إلصاق تهمة الأسطرة والخيال الى رؤية الدين الاسلامي الى الخلق والوجود، فهنالك أكثر من دليل منطقي على أن وجود الخالق وقدرته اللامحدودة على الخلق والوجود، إنما هي حقائق لا يشكك بها العقل ولا الفطرة السليمة، كل ما هنالك ، على الانسان فتح نافذة الرؤية الايمانية السليمة من خلال القرآن الكريم وتراث أهل البيت (عليهم السلام)، لتُفتح أمامه جميع الأبواب الموصدة.