قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
في ذكرى استشهاده
زيد الشهيد. . الفقيه الثائر
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *حسين محمد علي جواد
غصنٌ من شجرة الرسالة المحمدية الصدّاحة بالحق، لم يهن ولم ينكل، ملتزماً نهج الولاية والمضي على طريق التضحية والفداء في سبيل الله تعالى وهو الطريق الذي مضى عليه من قبل أبو عبد الله الحسين في كربلاء. انه زيد بن علي بن الحسين بن علي أبي طالب عليهم السلام، الذي يُعد أول شهيد من أهل البيت عليهم السلام يقتقي أثر جده الحسين في مواجهة الظلم والطغيان وطلب الرضا لآل محمد.
عندما نتحدث عن هذا الغصن العلوي لا يجب ان نستغرب الدسّ ومحاولات التحريف لثورة زيد والصاق صفات والقاب بريء منها زيد (رضوان الله عليه)، فهذا هو التاريخ الذي لم يبارح قصور الملوك والأمراء، ولم ينجُ إلا نادراً من أقلام المأجورين و وعاظ السلاطين وبائعي الضمير والدين. فكانت نسبة (الزيدية) الى هذا الشهيد البطل، وان ثورته عبارة عن انطلاقة لهذا المذهب وانه الامام بعد أبيه الامام زين العابدين عليه السلام، وليس اخاه الامام الباقر عليه السلام، ومن المؤسف حقاً أن نجد بعض كتابنا ومن باب نشر قضية زيد وأهل البيت على عموم الساحة الاسلامية، يسلّط الضوء على موقف (ابو حنيفة) المؤيد لثورة زيد، في ايحاء واضح منهم بانها دلالة على شرعية ثورته وعظم خطرها في البلاد الاسلامية على الصعد الاجتماعية والسياسية والفكرية ايضاً. بينما زيد الشهيد، يكفيه تضامن أئمة الهدى معه من اخيه الباقر عليه السلام وحتى الامام الرضا، وقبل ذلك احاديث منقولة عن أمير المؤمنين وعن الامام الحسين عليهما السلام تُنبئ عن مظلوميته وتؤكد حقانيته. وابرز شاهد على ذلك الحديث المروي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله حين قال للامام الحسين عليه السلام وهو صبي بين يديه: (يا حسين... يخرج من صلبك رجل يقال له زيد، يتخطى هو واصحابه رقاب الناس ويدخلون الجنة دون حساب).
يصفون زيد الشهيد (رضوان الله عليه) بانه كان تام الخلقة، طويل القامة، جميل المنظر، أبيض اللون، وسيم الوجه، واسع العينين، مقرون الحاجبين، كَثُّ اللحية، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، واسع الجبهة، أقنى الأنف، أسود الرأس واللحية، إلّا أنّ الشيب خالط عارضَيه.
تربّى (رضوان الله عليه) في حجر أبيه الإمام زين العابدين (عليه السلام)، ثم نشأ وترعرع الى جانب أخيه الإمام الباقر وعاصر ابن اخيه الامام الصادق (عليهما السلام)، ومنهما أخذ لطائف المعارف وأسرار الأحكام، فأفحم العلماء وأكابر المناظرين من سائر الملل والأديان. فهذا ابو حنيفة يقول: (شاهدت زيد بن عليّ كما شاهدت أهله، فما رأيت في زمانه أفقه منه، ولا أسرع جواباً، ولا أبين قولاً). وهذه من الأدلة التي تبين لنا مقاصد ابي حنيفة من وراء هذا التقييم، فهو يعرف زيداً كما يعرف اخاه وعمه، ومع ذلك يسجل هذا الكلام والموقف الذي يعبر عن حرصه على تجاهل الامامين الباقر والصادق عليهما السلام.
نعم... كان زيد الشهيد (رضوان الله عليه) عارفاً حق المعرفة لإمامه بل ولسلسلة الأئمة الاطهار من بعد الرسول الأكرم، وهذا نص الحديث الذي يحدّثنا عنه الحافظ علي بن محمّد الخزّاز الرازي القمّي في (كفاية الأثر)، بإسناده إلى يحيى بن زيد قال: سألت أبي عن الأئمّة عليهم السلام، قال: الأئمّة اثنا عشر، أربعة من الماضين، وثمانية من الباقين. قلت: فسمِّهم يا أبت، قال: أمّا الماضون فعلي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين عليهم السلام، وأمّا الباقون فأخي الباقر، وابنه جعفر الصادق، وبعده موسى ابنه، وبعده علي ابنه، وبعده محمّد ابنه، وبعده علي ابنه، وبعده الحسن ابنه، وبعده المهدي. فقلت: يا أبتِ أَلَستَ منهم؟ قال: لا، ولكن من العترة، قلت: فمن أين عرفت أسماءهم ؟ قال: عهدٌ معهود عهده رسول الله صلى الله عليه وآله.
كان (رضوان الله عنه) معروفاً بفصاحة المنطق وجزالة القول، والسرعة في الجواب، وحسن المحاضرة، والوضوح في البيان والإيجاز في تأدية المعاني على أبلغ وجه. وكان منطقه يشبه منطق جدّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام بلاغةً وفصاحة، وقد عَدّهُ (الجاحظ) من خطباء بني هاشم. ويذكر لنا التاريخ ان الحاكم الاموي هشام بن عبد الملك لم يزل منذ دخل زيد الكوفة يبعث الكتاب أثر الكتاب إلى واليه في ا لكوفة خالد بن عبد الله القسري يأمره بإخراج زيد ومنع الناس من حضور مجلسه، لما كان يخشاه من قوة شخصيته وجذابيته بعلمه الجمّ وبيانه السهل، و وُصف أنّ له لساناً أقطع من السيف وأبلغ من السحر. ولعل هذا ما قضّ مضاجع الأمويين الذين لم يكونوا ليرغبوا بمنافس او من يهدد وجودهم على كرسي الحكم ويفضح زيفهم وانحرافهم عن الدين، فكان أن ابتدعوا له لقب (العجل) كما سمّاه هشام ومن بعده ابنه وليد، ليثبتوا في التاريخ ان زيداً تكرار لما حصل مع نبي الله موسى عندما خدعهم السامري بالعجل، فتخلّوا عن عبادة الله الواحد وعبدوا العجل!
زيد نصير أهل البيت
كان زيد بن علي (رضوان الله عليه) من ابرز فقهاء المسلمين، فهو قبل ان يكون ثائراً ومقاتلاً، كان حاملاً لمشعل الرسالة، يبلغ لدين الله وينشر القيم والمبادئ الاسلامية ببيانه الفصيح والبليغ و يراعه، يقول الإمام الباقر (عليه السلام) في حقه: (اللّهمّ اشدد أزري بزيد). أما الإمام الصادق (عليه السلام) فيؤكد مكانة زيد العلمية: (... فإنّ زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، إنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه). وجاء عن الإمام الرضا عليه السلام ايضاً: (كان من علماء آل محمّد، غضب لله عزّ وجلّ، فجاهد أعداءه حتّى قُتل في سبيله).
وقد خلف زيداً بعد استشهاده عدد من المؤلفات التي تعد انجازاً علمياً قياساً بتلك الفترة الصعبة والدقيقة من التاريخ الاسلامي، ولو ان هذه الكتب قد لاتكون بين ايدينا اليوم، نذكر منها: المجموع الفقهي، والمجموع الحديثي، تفسير غريب القرآن، وإثبات الوصية، ومدح القلة وذم الكثرة.
هذه الصورة الناصعة تقف أمام الصورة التي اراد الحكام ان يلصقوها بالتاريخ الاسلامي كذباً و زوراً عن شخصية زيد بن علي (رضوان الله عليه) وانه اراد الأمر لنفسه وكان يسحر الناس ببيانه وخطاباته. لكن فاتهم ان نهج التضحية والفداء هو الحد الفاصل، كحدّ السيف القاطع بين الصدق والكذب، فالذي تعظم في عينيه الدنيا والسلطان لن تصغر في عينيه روحه ونفسه، والعكس بالعكس قطعاً، وهو طريق أولياء الله والصديقون الذين يسترخصون دمائهم من اجل إحياء القيم والمبادئ ليعيشها من بعدهم آخرون. وهذا ما فعله تحديداً زيد الشهيد عندما شعر بوطأة السكوت عن مظالم ومساوئ بني أمية وهم يعلنون على منابر رسول الله صلى الله عليه وآله. ويصادرون حقوق الناس ويهدرون الدماء وينتهكون الحرمات.
الكوفة مرة أخرى
شاءت الاقدار ان تكون الكوفة نقطة انفجار جديدة للثورة على الظلم والطغيان، وكان القدر مكتوباً لزيد الشهيد ان يغادر مدينة جده رسول الله صلى الله عليه وآله ويأتي الى العراق، وتحديداً مدينة الكوفة التي تخبو فيها جذوة الرفض والمقاومة ضد نظام حكم بني أمية منذ واقعة الطف سنة 61 للهجرة، فكانت الثورة تلد أخرى، وفي عهد هشام بلغ الظلم والطغيان مبلغه، عندما شدد الوطأة على الناس بالضرائب المجحفة على الاعمال الحرفية والتجارة، بل انه خوّل ولاته في الامصار الاسلامية حق التصرف باموال المسلمين كيف يشاء وتتحول الى ملك خاص، فيما كان الناس يعيشون شضف العيش والحرمان.
رفع زيد بن علي (رضوان الله عليه) لواء الثورة في الكوفة فاجتمع حوله حسب بعض المصادر خمسة عشر ألف رجل، هذا وكان الوالي خالد القسري غافلاً عن تحركات زيد، ولمّا بلغ الامر الحاكم الاموي هشام بن عبد الملك ارسل الى واله يوبخه ويلومه على غفلته من أمر زيد، فأمر بعزله وتعيين واليه على اليمن يوسف بن عمر الثقفي المعروف بدمويته، ويبدو اننا امام مشهد متكرر لما حصل في عهد الامام الحسين عليه السلام، وكيف ان يزيد استقدم ابن زياد من البصرة و ولاه الكوفة ليحقق له السيطرة الكاملة على هذه المدينة الحيوية والاستراتيجية.
كان زيد قد أعدّ العدّة لساعة الصفر، لكن حصلت أمور عديدة دفعته لأن يعجل باعلان الثورة في الكوفة واسقاطها عسكرياً. تقول بعض المصادر التي تميل الى المذهب الزيدي ان طائفة من انصاره انشقوا عنه وحاججوه في توجهه الفكري واتهموه بابتداع مذهب جديد غير مذهب أهل البيت عليهم السلام، وهناك تفاصيل على الصعيد ا لسياسي حول الإسراع في الاجراءات التي اتخذها النظام الأموي لتدارك الوضع المتفجر في الكوفة، مما دفع بزيد الشهيد ان يفجر ثورته قبل الموعد المحدد ويشتبك مع الجيش الأموي، في معركة غير متكافئة لكنها بطولية، سقط فيها زيد شهيداً بعد ان أصيب بسهم مسموم في رأسه في الثالث من شهر صفر سنة 120 للهجرة. وهكذا طويت صفحته ولم تبق مفتوحة كما حصل في ثورة جده الحسين عندما سجّل جميع انصار الامام مواقفهم بدمائهم الزكية، بينما تفرّق الكثير من انصار زيد بعد انتهاء المعركة، وبدلاً من ان يواصلوا طريقه الحق، مالوا الى اهدافهم وغاياتهم الخاصة.
الصلب. . التنكيل بالثورة
أجمع المؤرخون والباحثون على أن جريمة صلب زيد بن علي (رضوان الله عليه) بعد استشهاده على جذع نخلة عارياً ولفترة طويلة، يُعد من أعظم المساوئ في التاريخ الاسلامي، فهو اول قتيل يتعرض لهكذا تعامل وحشي. فقد أمر هشام بصلب جثمان زيد عارياً في الكوفة ومنع الاقتراب منه، وينقل التاريخ ان حشرة العنكبوت جاءت بعد فترة من الزمن ونسجت بيتها على عورة هذا الشهيد البطل لتستره بعد ان أبى الانسان الظالم إلا ان تكون مكشوفة. واستمر الحال أمام أنظار المسلمين طوال أربعة سنوات، حتى هلك هشام وجاء بعد ابنه وليد فكتب إلى واليه في الكوفة يوسف بن عمر الثقفي: (أمّا بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر عجل أهل العراق فاحرقه وانسفه في اليمّ نسفاً والسلام). وهناك رواية تتحدث عن قيام شيعة اهل البيت بحمل جثمان الشهيد خلسة ودفنه في مكان بعيد عن الانظار وفي مجرى نهر جففوه ثم أجروا الماء عليه، لتضعف كل الاحتمالات بالعثور عليه، لكن شاءت الاقدار ان يكون احد عيون بني أمية قريباً منهم فدلهم عليه فاخرجوا الجثمان ونفذوا فيه ما حكم به الطاغية الأموي. لكن هذا لم يمر بسلام وأمان الأمويين فلم تمض سوى احد عشرة سنة على استشهاد زيد حتى طويت صفحة الحكم الأموي الى الابد. لكن بقي ذكر زيد الشهيد خالداً مدوياً، بل و مزاره قبلة للزائرين، فهم يزورون حرماً يفتقد لجثمان في منطقة قريبة من قضاء (المحاويل) التابعة لمحافظة بابل وسط العراق، لكنهم بذلك يستلهمون دروس التحدي والإباء.