قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
قصة قصيرة
العربة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *جاسم عاصي
لابد من القيام بالعمل هذا .. فلا هو يدري لماذا..؟ ولا من رآه عرف السبب، الكل مشغول بما حوله بل ربما المدينة الرمادية ذات الدخان المتصاعد والتقاطع في الخطوات في الخروج والدخول هي السبب في عدم اكتراث الرجل بكل ما يجري ولا كيف يجري تماما بل اندفع الى هذه النقطة التي وجد نفسه محاصراً داخلها منطلقاً منها وهو على اية حال يجوب المدينة التي تستقبله بأزقتها وهو رجل طاعن في السن عارٍ إلاّ مما يستر عورته ويتوسط مكان الحصان لعربة كبيرة نوعاً ما يضع ساعديه على العمودين الخشبيين اللذين يمتدان امام العربة بشكل متوازِ متوسطا اياهما وممسكا بهما بقوة دافعا العمودين الى الاسفل حيث ترتفع العربة من الخلف وتصبح متوازية مع جسده لحظتها تنط اعصابه وعظامه وتوالي خرزات ظهره المنكشف للسماء والشمس.
السماء النارية والشمس المحرقة والمدينة كأنها خرجت تواً من بركان اغتالها لوقت طويل وسالت محتوياته المتوقدة الفائرة لايام مالئاً الطرقات والازقة والبيوت مخلفاً حرائق ودخاناً واقداما تتقاطع هاربة من هنا الى هناك.
هدوء مخيف مبطن بالخوف واصوات مكبوتة ينتابها الهلع والرجل يجري ويجري داخل الازقة والحارات والشوارع المستقيمة الملتوية في المدينة دون هوادة يجري دون ان ينظر يركض دون ان يلمح احداً او يدقق بشيء ما. ربما قرر ذلك وربما امتلأ باحساس غامض، لكن كل امره ان يجري هكذا وتنط عضلاته المتوترة وتبرز نتوءات عظامه ساحباً العربة بنشاط منذ الصباح سرعان ما يقل رويداً رويداً، كلما انسحبت الشمس عن المدينة وشحبت حتى ليبدو انه انسان شمس يتبرد لغروبها، وتنتقل عليه العربة لحظتها وهو يدرك هذا الثقل، وكل من حاول اللحاق به لايستطيع ادراكه بسهولة لكنه يبقى على أمل العودة الى نفس الزقاق هذا، او الشارع ذاك ومن ثم العثور عليه، هكذا فالانتظار افضل لبعضهم من اللحاق به مسرعاً، لايدري اي شيء كان الثقل يزداد عليه واحياناً يخف ويجهد نفسه على ان يكون متوازناً حيثُ تزداد حركته وجريه وحين تخف العربة من حملها لايتوانى في ذلك ببذل الجهود المضاعفة لكي لايظهر عجزه عن الجري في حالة امتلائها بالتوابيت.
عند مروره بالازقة والشوارع كان الجميع إما أن يأخذوا منه احد تلك التوابيت كي يضعوا جثة عزيز لهم داخلها أو أنهم يرمون بآخر كان قد فرغ بعد ان واروا الجسد في التراب، والرجل المسن يجري ولا يدري بهذا أو ذاك ناتئ العظام، فقط محافظاً على توازن جريه لايدرك من يراه او يلمحه، والايام تمضي عليه وهو لايفقه ايضاً ولايستطيع احد ايقافه ولا هو يتمكن من ايقاف نفسه عن الجري منذ ابتلاج الشمس الى لحظة اختفائها حيث ينط من مكمنه ويسعى هكذا لحين تميل الشمس الى الراحة. يومه هكذا يجري، شديد البصمات على نفسه وجسده.
مالت الشمس الى المغيب وهو قد ابتدأ بالعد التنازلي وحين خفت تماماً بدأ الظلام يزحف، توقف تماماً عن الحركة دون ان يشعر عند أول نقطة وصلها، ترك العمودين الطويلين يرقدان على الارض بهدوء كما لو انه يفك وثاق ولجام الحصان. خرج كعادته من بين توازن العمودين قاصداً أول جدار، وكالعادة اتكأ عليه شاعراً بالدبيب ليسري في جسده والتعب ينهض فجأة ليحاصره بالانين، لعن في نفسه اللحظة التي توقف فيها عن الجري فبان الاعياء عليه.
وبسرعة دون ان يشعر كما في كل مرة حدّق بالعربة المائلة لاحظ ثمة تابوتاً يرقد على سطحها نهض من فوره بمعدة فارغة خاوية، رفع الغطاء ثم صعد الى سطح العربة ليتمدد داخل التابوت رفع الغطاء بصعوبة وهو نائم هكذا يقربة قليلاً قليلاً من الاعلى بيدين مرتعشتين تنط عظامهما إذ يستقر الغطاء على التابوت ينعزل الرجل المسن تماماً عن العالم، يحس انه في عزلة فائقة لا أصوات تأتيه. يرقد ويستسلم الى نوم هادئ او تنتابه الهواجس والكوابيس وجيوش الالم تدب في جسده لكنه على أية حالة ينقاد من طلوع الشمس يرفع الغطاء عنه محتلاً الفسحة التي تتوسط بين العمودين المتوازيين واضعاً ساعديه على العمودين يحفهما الى الاسفل ترتفع العربة الى الاعلى بموازاة جسده ثم يبدأ دورته اليومية يجري ويركض بين الازقة الضيقة والشوارع والطرقات لا يلوي على شيء يعرفه، عربته تفرّغ فيخف عنده السحب نحو الامام فترتخي عضلاته، وتمتلئ بالتوابيت فيشعر بثقل الاجساد الساكنة فيزداد لهاثه وتوتر أعصابه وتنط عظامه، هكذا يجري شاعراً بخفّتها مرة وثقلها أخرى تحت شمس ساطعة ومليئة بالدخان ورائحة احتراق الاجساد.