قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

السيّد عبدالحسين شرف الدين. . الخطوة الكبيرة لنشر التشيّع في العالم
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *علي عبد الخالق
في سماء التاريخ الاسلامي الحديث والقديم هنالك أنجم لامعة تزين ليالينا المظلمة كما تدلنا على الطريق الصحيح المؤدي بنا الى نفس المراتب التي بلغوها سواء في طريق العلم او الجهاد او الثورة على الباطل والانحراف. ولكل نجم بريق خاص به لأنه يحمل هوية صاحبه ما قدمه للحضارة وللانسانية جمعاء، مثالاً لا حصراً، الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، مع ما له تاريخ مفصل مع النبي الأكرم واهل البيت عليهم السلام، لكنه عُرف بانه العدو اللدود للمال المكتنز وللاثرياء على حساب فقر الناس، او حجر بن عدي الكندي مثال الولاء الخالص والشجاعة أمام الباطل حتى النفس الاخير، او الحسين بن روح الذي وصفه أحد اصحابه بانه من القلائل الذين إن تعرض للتهديد بقرض بدنه بالمقاريض لما دلّ على مكان إمامه صاحب الزمان عجل الله فرجه، ومن تاريخنا القريب اسماء عديدة، كل منها يحمل مفخرة بارزة عُرف بها بعد رحيله عن هذه الدنيا، وكذلك الحال بالنسبة لعالمنا الكبير الذي نعيش هذه الايام ذكرى وفاته السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي (رضوان الله عليه)، الذي عُرف بانه صاحب (المراجعات)، وهو الكتاب الذي عرّف عالمنا الراحل الى التاريخ كأول شخصية تؤلف كتاباً يناظر فيه بكل قوة واقتدار المذهب الاخر ليضعه امام الامر الواقع ويقنعه بأحقية مذهب التشيع وأنهم الفرقة الناجية التي بشر بها رسول الله. لكن قبل ان نعيد تذكير القراء بتفاصيل هذا الكتاب الشهير، لابد لنا من وقفة قصيرة عند هذه الشخصية العلمائية الفذة.
كاظمي ينحدر من جبل عامل
وُلِد السيّد عبد الحسين شرف الدين في مدينة الكاظميّة سنة 1290 للهجرة الموافق لسنة 1870 للميلاد، مِن أبوَين عَلَويّين يتّصل نسبهما بالإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام. لازَمَ والدَه ودرس على يديه ما يحتاج إليه من العلوم الأوّليّة، فعُرِف بتقدّمه على أقرانه في سنّ مبكّرة. وخلال سنواتٍ معدودة أصبح السيّد يُشار إليه بالبَنان في الاجتهاد والدقّة وقوّة الحُجّة في المُناظَرة والمُذاكَرة، واشتهر في تقرير الدروس الفقهيّة والأُصوليّة؛ من حيث العمق وحضور الذهن وسرعة الاستنباط وحلّ معضلات المسائل بأقرب طريق.
وكان السيّد شرف الدين قد نَهَل مِن نمير أعلام العراق، أمثال: الآخُونْد محمّد كاظم الخُراسانيّ، وشيخ الشريعة الإصفهانيّ، والسيّد كاظم اليزديّ، والسيّد إسماعيل الصدر، والسيّد حسن الصدر. وكان رحمه الله كثيرَ السؤال والمذاكرة والاستفسار عن مشاكل المسائل، محبّاً للمناظرة والإفادة، كارهاً للجدل العميق، وإنما كان يعرض المسألة ليُفيد أو يستفيد، مِن غير أن يتعالى على المُتناظِر معه أو يجرح شعوره إذا احتدم النزاع.. وهذا هو الذي جعل له هَيبةً في النفوس وحُرمةً في القلوب كلّما حَمِيَ وطيسُ المذاكرات العلميّة.
وما بلغ سنُّه الثانية والثلاثين حتّى أصبح من المجتهدين المرموقين، وأصبح معروفاً في الأوساط العلميّة بصورةٍ قلّما حَظِي بمِثلها عالمٌ قبلَه في مثل سنّه. ومع ذلك، كان يواصل تحصيله العلميّ في النجف الأشرف، متنقّلاً بين الحين والآخر بينه وبين الكاظمية وسامرّاء وكربلاء، يتّصل بأعلام هذه البلاد ومراجعها، حتّى أصبح اسمه يتردّد في كلّ مُنتدىً علميّ، أو مَجمع أدبيّ.
وبعد سنين طويلة، عاد السيّد شرف الدين إلى وطنه في لبنان، وكانت عودته يوماً مشهوداً في تاريخ جبل عامِل، فقد استقبله العلماء والزعماء وعامّة الشعب من حدود جبل عامل على طريق الشام، وتجمّعت القُرى العامليّة مِن كلّ مكان حتّى غَصَّت مدينة صُور بالمستقبِلين. وكان ورود السيّد شرف الدين إلى صُور مَدْعاةً للاجتماعات الكثيرة لكافّة الناس، وحافزاً لزيارة إخوانه العلماء الأعلام الذين استعادوا بعودّة السيّد أيّامهم العلميّة الماضية، فاستعدّوا مِن جديد للمذاكرة والمناقشات المفيدة.
(المراجعات)
كما اسلفنا، بات كتاب (المراجعات) الهوية البارزة لشخصية عالمنا الجليل، وهو عبارة عن مناظرات جرت بينه وبين شيخ الازهر الشيخ سليم البشري في خمسينات القرن الماضي، وقد استغرق هذا الحوار القيم مائة واثنتي عشرة حلقة نقاش جرت بين هذين العالمين، وكان نهاية المطاف قبول شيخ الازهر بالحقيقة الناصعة وأحقية مذهب اهل البيت عليهم السلام، ومذاك اصدر فتواه الشهيرة بحليّة التعبّد بالمذهب الشيعي، وكان لهذه الفتوى صدى ديني واجتماعي عمّ العالم، بعد ان تكالبت القوى الظلامية تدعمها القوى الاستعمارية لابعاد المسلمين عن تعاليم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، واصبح التشيع المذهب المعترف به رسمياً في العالم الاسلامي.
وقد امتازت تلك الحوارات بالاسلوب العلمي الهادئ في اجواء ودّية وأخوية، لم تتكرر للأسف في عالمنا الاسلامي حتى الان، وقد تناولت مسائل أساس في العقيدة والاحكام الشرعية، مثل الولاية بعد الرسول الاكرم والعصمة والفرائض وغيرها. وكان الكتاب بالحقيقة مثالاً ووثيقة شيعية الى جميع المسلمين لاسيما طبقة النخبة منهم، باننا الاكثر ايماناً بالحوار الموضوعي واحترام الرأي الآخر، لإيمناننا الكامل والعميق بأحقية المنهج الذي نسير عليه، وهذا ما اراد التأكيد عليه عالمنا الراحل (رضوان الله عليه).
ومما ترك السيّد شرف الدين من ذخائرَ علميّةً رائقة، يمكن الاشارة الى (الفصول المهمّة في تأليف الأمّة)، وهو كتاب ودعوة صادقة أخرى نحو جمع الكلمة واتّحاد الأُمّة، والكتاب الآخر في هذا المسعى (أجوبة مسائل موسى جار الله)، وهو مجموعة إجابات عن عشرين سؤالاً تقدّم بهنّ موسى جار الله إلى أعلام الشيعة في البلاد الإسلاميّة، وكانت أجوبة السيّد دالّةً على علمٍ غزير واطّلاع واسع، يكتفي بها كلُّ مَن كان الحقُّ رائدَه. و (الكلمة الغَرّاء في تفضيل الزهراء) عليها السّلام: وفيها دلائل تفضيل الصدّيقة الكبرى فاطمة صلوات الله عليها على سائر النساء، وبراهينُ لا تقبل الردّ. و(المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة)، تكفّل ببيان أسرار النهضة الحسينيّة الشريفة، وآثارها المباركة على الإسلام والمسلمين مشفوعةً بكلماتِ كبار الأجانب الذين تعرّفوا على عظمة الإسلام مِن خلال طريق الإمام الحسين عليه السّلام وثورته ضدّ الظلم والظالمين.
ومن ابرز ما كتب في إحقاق مذهب اهل البيت عليهم السلام بالأدلة والبراهين القاطعة كتاب (النصّ والاجتهاد) وهو مِن أعمق الدراسات الإسلاميّة في بحث الاجتهادات الصادرة مِن بعض الصحابة قبال أوامر النبيّ صلّى الله عليه وآله ونواهيه. وقد تضمّن مئة مسألة بحَثَها السيّد بحثاً علميّاً لم يَلْقَ إلاّ التأييد أو الاستسلام. وقد أنهى السيد شرف الدين (رضوان الله عليه) هذا الكتاب وهو في سنّ الثمانين من العمر. وايضاً لديه (زينب الكبرى) عليها السّلام، وهو رسالة جليلة تعرّض فيها – إشارةً - إلى مقام السيّدة العقيلة صلوات الله عليها ومواقفها الخالدة، وأصل هذا الكتاب خطبةٌ خطبها السيّد شرف الدين رحمه الله في الصحن الزينبيّ المطهَّر. علماً انه (رضوان الله عليه) كان في طليعة المؤيدين لرواية وجود الجثمان الطاهر للعقيلة زينب عليها السلام في المكان الحالي، بعد ان كثرت الروايات والأقاويل بهذا الشأن. وله مؤلفات عديدة في العقائد والفقه والحديث والسيرة.
مشاريعه وآثاره
استوطن السيّد شرف الدين في مدينة صُور الساحلية جنوب لبنان، فبنى فيها حسينيّة مِن دارٍ امتلكها ثمّ أوقَفَها، فأقام الصلوات في تلك الحسينيّة وألقى دروس الدين والإرشاد فيها، واجتمع مع الناس فيها لحلّ مشاكلهم. ثمّ أنشأ هناك مسجداً فخماً، أقام فيه كلَّ عام ذكرى مولد النبيّ صلّى الله عليه وآله في احتفال كبير يجتمع فيه الناس مِن أنحاء البلاد العامليّة، ويدعوهم بعد الاحتفال إلى تناول الطعام في داره.
وأسّس السيّد مدرسةً سمّاها (المدرسة الجعفريّة) لتهذيب النشأ وتثقيفه، كما أسس نادياً سمّاه (نادي الإمام الصادق عليه السّلام) للاحتفالات الدينيّة والمحاضرات الثقافيّة، وألحق بهما مسجداً.
وأرسل المبلّغين إلى المَهاجِر الإفريقيّة، وفي مقدّمتهم ولداه: السيّد صدر الدين والسيّد جعفر، وكانا لهما دورٌ في (الكليّة الجعفريّة) فيما بعد، وكان السيّد شرف الدين قد أسّسها لتربية الجيل الصاعد، ولم يكن يأخذ أُجوراً من الطلبة الفقراء، وإنّما كان يأخذ من المتمكّنين لتقوم الكليّة بواجبها تجاه المعوزين في كلّ ما يتعلّق بشؤونهم ولوازمهم.
ولشدّة عنايته بالمحتاجين، أسّس السيّد شرف الدين رحمه الله (جمعيّة البرّ والإحسان) لتقوم بإكساء الفقراء ورعايتهم، ودفنِ وتجهيز الموتى من المساكين، حتّى أصبح من النادر أن يُرى في مدينة صور سائلٌ أو محروم.
وفاته
بعد أن اجتاز من العمر سبعةً وثمانين عاماً، توفّى اللهُ تعالى إلى رحمته سماحةَ السيّد عبدالحسين بن السيّد يوسف الموسويّ، بعد عمرٍ قضاه في الدعوة إلى الله تعالى، والقيام بنشر الشريعة الغرّاء، وتعريف الأُمّة بالثقلَين (كتاب الله والعترة الطاهرة)، وهُدى الناس إلى ما فيه صلاحهم، والسير بهم على الطريق الأمثل الذي أمر به اللهُ تعالى ورسوله صلّى الله عليه وآله.
وكانت وفاته رحمه الله في الثامن من جمادى الآخرة سنة 1377 هـ / الموافق للثلاثين من كانون الأوّل سنة 1957م، حينها تجمّعت القرى العامليّة في بيروت لتودّع زعيمها الدينيّ، وخرجت بيروت بعلمائها وأدبائها وساستها وجموع الشعب ورجال الحكم؛ لتلقيَ نظراتها الأخيرة على النعش الذي أقلّته طائرة خاصّة إلى بغداد لِيُشيَّع هناك في الكاظميّة وفي مدينة كربلاء المقدّسة ثمّ النجف الأشرف تشييعاً مهيباً، فيُدفن في الحصن العلويّ المطهّر عند جدّه أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام، فطاب مَثواه.. رضوان الله تعالى عليه.